في السنة الأولى من المرحلة الثانوية اختلفت أوضاع المدرسة كثيراً، فالموسيقى والمسرح اختفيا تماماً من الحفلات المدرسية، وظهرت لغة جديدة تتحدث عن الصلاح والخير والإنسان المسلم الملتزم، وبدأت حركة طلابية غير معتادة فيما كان يطلق عليه بجمعية التوعية الإسلامية في المدرسة الثانوية، والتي كان لها حراك ونشاط غير عادي، تدعو من خلاله إلى العودة إلى أصول الدين والالتزام بتعاليمه، وتقدم رسالة فحواها أن أحد أهم أسباب انحطاط المسلمين هو بعدهم عن دينهم الحنيف، وأن لا سبيل برجوع هذه الأمة إلى مجدها وعزتها إلا بالعودة إلى الدين الصحيح..
كان الإنسان الملتزم يتميز بدماثة أخلاقه وبحديثه الهادئ الذي يكاد لا يُسمع، وأكثر ما كان يلفت الانتباه حركتهم الجماعية في المدرسة، والابتسامة التي لا تفارق محياهم، وطريقتهم المثالية في الدعوة إلى سبيلهم بالحكمة والموعظة الحسنة... كانوا ينظمون الرحلات الطلابية إلى خارج المدينة، والتي يتم خلالها الترحيب بالأعضاء الجدد والترفيه والوعظ الديني، كذلك كانوا يتميزون بمهارتهم وقدراتهم في التحصيل العلمي..كانت الصورة جذابة وتمثل نقلة جديدة في يوميات الحراك الطلابي، وكان الإقبال على المشاركة في الأنشطة كبيراً، وقد امتد ذلك إلى المسجد، إذ بدأ سباق في تأسيس المكتبات داخل المساجد، لتبدأ مرحلة جديدة شعارها العودة إلى الإسلام من المسجد إلى المجتمع.. لكن الطرح الإسلامي الدعوي النموذجي لم يكن خالياً من التفاصيل؛ فالإخوة الملتزمون لم يكونوا على وفاق، فالملاحظ أن بعضهم لم يكن يذهب إلى جمعية التوعية الإسلامية في المدرسة، ولا يُشارك في النشاط الطلابي المدرسي، وكانت المفاجأة في أن بعضهم كان يتجنب البعض، وقد يصل الأمر إلى عدم إلقاء السلام على الآخر، وهو ما كان فيه دافعاً ملحاً للتساؤل عن سبب هذا الجفاء، لكن الإجابة لم تكن تتجاوز أكثر من كلمتين: هؤلاء هم الزملاء الآخرون..!
كانت إجابة يخرج منها أكثر من سؤال: من هم الزملاء الآخرون؟ ومن هم الإخوة الطيبون؟ ولماذا هم متباعدون وهم في نظر الكثير يمثلون رسالة الإسلام الحنيف؟!
كانت الأسئلة بمثابة الجرس الذي لا يتوقف عن الرنين، فالإجابات لم تكن كافية، والأمر يحتاج إلى مزيد من البحث في تلك الصورة المثالية العالقة في الذهن منذ أول لقاء..
كان أكثر ما يميز ذلك الحراك الاجتماعي الحث على القراءة خارج المنهج، والتي لم تكن لها جذور في تاريخ المجتمع الشفوي.. فكانوا يتبرعون بتوزيع الكتب مجاناً، وكانت الكتب متنوعة وتمتد قائمة مؤلفيها عبر عصور التاريخ الإسلامي، لكن الفارق كان جلياً بين الفرقتين، فالزملاء الآخرون كانوا يهتمون بالكتب الإسلامية الأكثر حداثة لسيد قطب وحسن البنا وفتحي يكن وغيرهم، بينما كان الإخوة الطيبون من أعضاء جمعية التوعية يوزعون كتب ابن القيم الجوزية ومؤلفات شيخ الإسلام لابن تيمية وفتاوى الشيخ عبدالعزيز بن باز..
كان الأمر الأكثر غرابة أن مدرس حصة القرآن المنتمي لإحدى الفرقتين كان يضغط على أعضاء الفرقة الأخرى، ويحاول قدر الإمكان أن يقلل من درجاتهم في الحصة على الرغم من أنهم كانوا من حفظة كتاب الله، وهو ما يعني أن الاختلاف بين الجماعتين جوهري ويتجاوز مثالية الوعظ والدعوة إلى الالتزام، فالقضية في باطنها كانت سياسية، ويحاول كل منهما أن يزيد من أتباعه في المجتمع عبر الرسالة المثالية للدين الحنيف، وكان الأكثر دهشة أننا كُنا مثل (الأطرش في الزفة)، لم نعلم أن الأمر لم يخلُ من صراع خفي بين جماعتين تحمل كل منهما رسالة منظمة وتسعى لتحقيق أهداف غير معلنة..كانت مختلف التفاصيل والمواجهات بين الفرقتين في تلك الفترة تدخل ضمن خنادق المواجهات السرية، وكان الصراع الخفي يمتد خارج المدرسة إلى المسجد والمراكز الصيفية، ويستعد للدخول إلى الجامعة والخروج منها بعدئذ إلى الإعلام و الشارع، فكان الإعلان الأول عن خروج ذلك الحراك إلى العلن في المسجد الحرام في 20 نوفمبر عام 1979، وتكمن المفارقة أنه جاء من خلال حركة جهيمان التي كانت حركة خارجة عن محافظة التيار السلفي الذي كان يتم دعمه ليكون بمثابة الحصن ضد اختراقات الإخوان الآخرين.