يبدو أن الخطاب الصحوي المسيّس انتقل من مقارعة الحجة بالحجة إلى الفجور في الخصومة، الذي يلجأ إلى الشتم والبذاءة والإسفاف، يُدين نفسه في حين أنه يشعر واهماً أنه يُسكت الآخرين. الغريب أن الفحش والبذاءة يستخدمها من يزعم أنه يدافع عن الإسلام والمسلمين، بينما أن الإسلام يُدين البذاءة وقلة الأدب والفجور في الخصومة والفحش في القول والعمل من حيث المبدأ. ومن يظن أن البذاءة هي (وسيلة) للدفاع عن الدين فهو دون أن يعي (يُؤسلم) المنهج الميكافلي: (الغاية تبرر الوسيلة) بغض النظر عن مدى شرعية الوسيلة ومواءمتها لأخلاق الإسلام وثوابته، وهذا ما يرفضه الإسلام منطلقاً وقيماً. ولعل هذه الجزئية - أعني البذاءة - التي ينتهجها الحركيون المسيّسون، ضاربين بقيم الإسلام عرض الحائط، تؤكد ما كنا نقوله دائماً، ومؤداه أن الفكر (الحركي) الإسلاموي فكر (مسيّس) حتى النخاع، هدفه السلطة، وليست قيم الإسلام فيه إلا وسيلة للوصول إلى غاية؛ أي أنه مجرد (جسر) ما إن يَعبره الإنسان متجهاً نحو هدفه لا يلتفت إليه؛ فالمهم الهدف وليس الجسر الذي عَبَرَ من خلاله، وعندما يجدون أن هذه القيم (تعيق) حركتهم لن يترددوا في إلقائها جانباً والتخلص منها، ولن يعوزهم الدليل، أي دليل، حتى ولو كانت مقولة عابرة قيلت في ظروف خاصة، لإثبات شرعية (التملص) من هذه القيم، وسلامة منهجهم بالمعايير السلفية.
وأي مراقب يرصد ظاهرة (الصحوة) المسيّسة، وتثوير المجتمع على السلطة، يجد أنها تلفظ أنفاسها الأخيرة. فالإسلام المعتدل، والمتزن، والواعي، والمُحاور، إسلام التيسير لا التعسير، الذي يُقدّر (المصالح) بشتى أنواعها، ويأخذها بعين الاعتبار، هو الذي يكتسح وبقوة الآن. هذا الاكتساح جاء على حساب انحسار التشدد بشكل عام، والتشدد الصحوي المسيّس بشكل خاص.. ولعل المسيرة الإصلاحية التي تعيشها المملكة في هذا العهد الزاهر تقوم على أساس إصلاح ما جرّته (الصحوة) علينا وعلى الوطن من ويلات وكوارث، لعلّ أهمها على الإطلاق (الإرهاب) وحاضنته الرئيسية التطرف والغلو، وكذلك إعاقة التنمية البشرية؛ خذ - مثلاً - موقف البقية الباقية من الصحويين تجاه جامعة الملك عبدالله (كاوست)، وكذلك برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي، وكيف يُناهضونه ويقاومونه بكل قوة. ولعل الحملة التي يشنها بعض مشايخ الصحويين - يوسف الأحمد على سبيل المثال - على هاتين الفعاليتين (التنمويتين) تضع كثيراً من النقاط على الحروف، وتؤكد أن الصحوة (كأيديولوجيا) إحدى أهم العوائق في وجه التنمية البشرية في بلادنا.
الجانب الآخر من الموضوع أن أولئك الذين يغرفون من قواميسهم كل أنواع السب والشتم والبذاءة والحكم على النوايا وقذف الناس وتجريحهم وتخوينهم هم في الواقع يرسخون شخصية الإنسان الصحوي (البذيء) والمكتئب والمتجهم والمضطرب نفسياً الذي لا يرى أمامه إلا طريقين: طريق يسير عليه هو وصحبه ومن اتّبعَ منهجه، وانتمى (لحزبه)، وهو الصواب المطلق. وطريق آخر يسير فيه مناوئوه، وهو الخطأ المطلق، وسوف ينتهي بهم (حتماً) إلى جهنم وبئس المصير. هذا الموقف المتشدد والمغالي في إقصاء المخالف هو الذي أساء للصورة النمطية للإسلام السلفي، وجعله - للأسف - يظهر عند كثيرين في العالم بهذه الصورة القاتمة والمأزومة والمحتقنة والعدوانية.
خلاصة ما أريد أن أقول في هذه العجالة أن الصحوة المسيّسة ظاهرة (هشة)، لا تستطيع أن تصمد أمام النقد؛ فالشتم والسب والهجاء وسلاطة اللسان مثل (الفقاعة) تتلاشى وينتهي وجودها بمجرد أن تنفجر، أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
إلى اللقاء.