لا نستطيع أن نقتطع حادثة من سياقها الزماني والمكاني، ونفسرها تفسيراً مطلقاً كأمر طارئ أو منقطع عن تاريخيته، فالظروف المحيطة هي بالتأكيد التي أسهمت في تشكلها والمقادير التي تخالط بنيتها، فعلى سبيل المثال اهتمت وسائل الإعلام الأمريكية بشكل مكثف بحادثة الطالبة السعودية التي تعرضت للعنف المنزلي من قِبل زوجها المبتعث مما جعل محيطها الاجتماعي (الأمريكي) يؤازرها ويدعمها عبر عدد من الإجراءات التي تكفل لها الحماية، وقد يترجم هذا الاهتمام مشاعر دفينة تكمن في خلفية اللا وعي الأمريكي حول الرجل الشرقي - السعودية - تلك الخلفية تتكون فسيفساؤها من أحداث 11سبتمبر، وتهديدات القاعدة المستمرة للمجال الجوي، والجنود في العراق وأفغانستان, وقضية الشرق الأوسط المبهمة بالنسبة لهم، وإعلام يعكس صورة شعوب متخلفة عنيفة ودموية، جميع هذا بالتأكيد يتدخل في مقاربة القضايا الإشكالية في الولايات المتحدة التي يدخل في تفاصيلها الطلبة السعوديون، لأن قضايا العنف المنزلي ضد النساء موجودة أيضاً في الولايات المتحدة وما زالت الكثير من الأحياء الفقيرة هناك تكابدها بشكل شبه يومي ولكن هذا الاستقطاب الإعلامي حول قضية الطالبة السعودية لا بد أن ننظر له بشكل أكثر شمولية كما أسلفت من حيث خلفية الجاني والضحية معاً، ووعي جمعي ما زال يكابد آثار صدمة 11سبتمبر.
ولعل من أبرز الضحايا الذين وقعوا ضحايا (للإسلاموفوبيا) أو الإرهاب من الإسلام في الولايات المتحدة هو السجين حميدان التركي، الذي تبلورت قضيته ونضجت، بل حكم فيها من خلال كيماويات الرعب والتوجس والخوف الذي تلا الحالة السبتمبرية، في فترة كان هناك خطاب إعلامي أمريكي قوي يتبنى طروحات المحافظين الجدد حول معسكر الخير مقابل معسكر الشر، والشعوب المتحضرة في مواجهة الشعوب المتوحشة والبدائية.
فمهما بلغت عدالة القضاء واستقلاليته إلا أن القصور البشري المرافق بتصعيد إعلامي من شأنه أن يؤثّر كثيراً في تفاصيل وحيثيات القضية، وعلى الرغم من أن الاستئناف الذي سعى له نخبة من المحامين وفرتهم السفارة السعودية للمتهم، لكن يبدو أن السجين التركي دخل في شبكة عنكبوتية منسوجة من الطروحات الإعلامية والإسلاموفوبيا وقضايا الأمن القومي الأمريكي وغير ذلك من الأقفال التي أقفلت زنزانة التركي بـ 28 سنة.
الآن بدأنا نلمح مساعي لإعادة فتح ملف قضية التركي عبر عدد من الرسائل المستحثة على شبكة الإنترنت، والتي تحاول أن تعيد مقاربة هذه القضية بشكل حيادي ومستقل، مع كبير اليقين لدينا بأن الأوساط الدبلوماسية تبذل جميع ما في وسعها بهذا الاتجاه، لكن أيضاً لا بد أن يلعب الإعلام دوراً في إعادة التأثير على حيثيات هذه القضية، واستجلابها تحت النور مرة أخرى، لا سيما لدى الجماعات الحقوقية المستقلة والنشطة ضد التفريق العنصري في الولايات المتحدة، وأيضاً إعادة تسليط الضوء على القضية على المستوى العربي، وأذكر في هذا المجال فيلماً وثائقياً متميزاً قدمته قناة العربية حول القضية، ولكن ستائر التعتيم عادت وأسدلت عليها.
وأعود في النهاية لأؤكد على أن كل قضية مرتبطة بسياقها المكاني وتاريخيتها، وبالتالي من الممكن أن يطمس هذا الأمر الكثير من الحقائق ويخلخل ميزان العدالة.