لم يكن وعد (بلفور) البريطاني، في 1917, إلا تنفيذاً لوصية ووعد (وليم بلاكستون) Wiliam E. Blackston الصهيوني الأمريكي الذي أصدر وثيقة (فلسطين لليهود) في شهر مارس 1891, ولتكون أيضاً المرجعية لمشروع (هرتزل)
الذي أعلن رسمياً قيام الدولة اليهودية بعد خمس سنوات من تداول هذه الوثيقة, المدعمة بتوقيعات أكثر من أربعمائة شخصية قيادية وفكرية في أمريكا, ومن بينهم اثنان أصبحا فيما بعد من رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية.
ومعنى ذلك بكل وضوح أن الولايات المتحدة الأمريكية، ومن خلفها اللوبي الصهيوني في أمريكا؛ كانت معنية بشكل مباشر بقيام إسرائيل على الأراضي الفلسطينية, ومنذ وقت مبكر, يسبق كل المبادرات الحكومية الغربية, أو الجماعات الصهيونية, ومن أبرزها قيام الحركة الصهيونية بزعامة (هرتزل), أو إعلان وعد بلفور البريطاني, أو حتى الاحتلال البريطاني لفلسطين، الذي كان بمثابة فرض الأمر المخطط له على أرض الواقع.
وقد تجللت أفكار بلاكستون بغطاء ديني يُخفي تحته روحاً قومية تتأجج, تعلن عن مبادئ مشروع أمريكي صهيوني, فاليهود في نظر بلاكستون, هم (مجرد مقيمين في الولايات المتحدة) وتأسيس دولتهم في فلسطين سوف يحقق مصالح الأمم الأمريكية والأوروبية في تلك المنطقة, والعجيب أن هذا الحديث, كان قبل قيام حركة الصهاينة التي نادت علناً بقيام دولة إسرائيلية صهيونية في فلسطين، وقبل وعد بلفور عام 1917. أهمية الرسالة (فلسطين لليهود) ليس لأنها مهدت لتلك الأحداث وحسب, وإنما لأنها هي التي قادت إلى كل الأحداث, والتقسيمات التي شهدتها البلدان العربية بعد ذلك, ومنها (سايكس بيكو). لنتأمل ما جاء في ديباجة رسالة بلاكستون (فلسطين لليهود:
* للشعب اليهودي الحيوي, في ظل حماية دولية سيرضي طموحات كل الدول الكبرى. فهذه الدولة التي لن تعيش إلا بالحماية الدولية ستؤمن مصالح العالم... ولطالما كانت فلسطين بلاد خير وعطاء. وها هي أمطارها تزبد في هذه الأيام. وهناك دلائل على أن الأرض تستعيد خصبها القديم. إن إعادتها إلى ذلك المجد التاريخي الغابر ليس مستحيلاً بل يمكن التخطيط له في مؤتمر دولي تعقده الدول الكبرى. ففلسطين مثل رومانيا واليونان ومونتنيغرو (جزء من يوغسلافيا السابقة) يمكن انتزاعها من الأتراك وإعادتها إلى أصحابها. وعلينا أن نتذكر أن اليهود عاجلاً أو آجلاً سيؤيدون جهودنا لإعادتهم إلى وطن آبائهم وأجدادهم. ومادام معظمهم يعيشون بيننا فإن (إحياء إسرائيل) يعنينا أكثر مما يعني أي دولة أخرى في العالم. لقد آن لأمريكا أن تنقل عقيدة (القدر المتجلي) Manifest Destiny إلى مسرح العالم) (منبر العكش، تلمود العم سام ص 151).
ولنتدبر ما جاء في هذا المقتطف من هذه الرسالة (الوثيقة) الخطيرة, وللأسف فإن نصها كاملاً, ليس تحت يدي الآن, وإنما أنقلها عن (منير العكش) في كتابه الهام (تلمود العم سام) فهذه (الوثيقة) تعلن صراحة أن صنع إسرائيل كدولة, وترحيل يهود أمريكا أولاً, سيكون من صنع (الدول الكبرى) وتقرر هذه الوثيقة, أن هذه الدولة الوليدة (لن تعيش إلا في ظل الحماية الدولية). كما تؤكد (الرسالة الوثائقية) (أن فلسطين يمكن انتزاعها من الأتراك) وهذا ما تم لاحقاً, حيث سقطت القدس في أيدي القوات البريطانية. في أواخر عام 1917، وفي نفس السنة, كان إعلان وعد بلفور الشهير. فالأمور هنا مقدرة بترتيباتها القادمة من وراء المحيط حيث يقرر بلاكستون (أن (إحياء إسرائيل) يعنينا (أمريكا) أكثر مما يعني أي دولة أخرى في العالم).
وحال إعلان رسالة (فلسطين لليهود) في شهر مارس 1891, وفي نفس الشهر أعلنت حركة الإصلاح اليهودية The Jewish messenger، في صحيفتها, معارضتها (لوعد بلاكستون) ومما جاء في تلك الافتتاحية (نقلاً عن منير العكش):
(إننا لسنا شعباً على الإطلاق بل نحن جماعة دينية, وإننا نحب أن نذكر السيد بلاكستون بأن اليهود أقلعوا عن الحلم بفلسطين لحسن الحظ أو لسوئه، ونظن أنه لحسن الحظ. إن ديانة أشيعا تحتاج إلى متسع أكبر من الأرض؛ تحتاج إلى عالم أرحب من ذلك الشريط الضيق من الأرض... ثم إن هذه الدولة التي يقترحونها لنا ستؤجج مشاعر العداء للسامية وتثير الشكوك في مواطنية اليهود). (ص150).
وقد تصاعد الجدل في أوساط اليهود وبعض الصحفيين المعتدلين المؤيدين لهم في ذلك الوقت, ضد المشروع الصهيوني, والفكرة الصهيونية في أساسها التي كانت تعلن عن نفسها في أواسط الأمريكيين السياسيين، وثلّة من القوميين اليهود الصهاينة والتي ربما تلاقت فكرتهم مع القوميين الألمان, ودفعت بهم في آخر الأمر, أو كانت من أكثر السعداء, بما تم تدبيره، واُلصق بالنازية الألمانية فيما بعد, بما عُرف بالمحرقة, ضد اليهود في ألمانيا وبعض بلدان أوروبا, وهو القربان الذي ظلت تعلقه الصهيونية, على صدور الشهداء من اليهود المطاردين، وعجل بتنفيذ المشروع الصهيوني في قضية العودة واحتلال فلسطين. إن قراءة متفحصة لهذا المقتطف من افتتاحية صحيفة (نيويورك صن) في تلك الفترة, وقراءة ما بين السطور, توحي على ما يبدو أن تلك الافتتاحية كُتبت بحذر, وبما يشبه الحيادية الإخبارية, لكنها تُلخص ما جرى وموقف اليهود الإصلاحيين من ذلك تقول الصحيفة:
(إن غالبية اليهود يرفضون إعادتهم إلى فلسطين وإن على الولايات المتحدة ألا تحشر أنفها في ما لا يعنيها... فاقتراح فصل اليهود وعزلهم وتكديسهم في فلسطين مشابه لذلك المشروع القديم الذي يقترح ترحيل الزنوج إلى إفريقيا. وهذا ما يعرفه اليهود جيداً. إن هذه المشاعر المتلبسة بتعابير الخير والإحسان ليست في النهاية إلا مظهراً من مظاهر اللاسامية, ولن يسعد بها إلا العصبة الألمانية لمعاداة السامية. أما اليهود فإنهم لا يؤيدون هذه الفكرة, ولا يؤيدون فكرة الصهيونية نفسها, فهم بألف خير حيث يعيشون, وإن لديهم من الحس العملي ما يمنعهم من التضحية بما ينعمون به الآن لمجرد أن يحتلوا بلداً) (ص 149)
والواقع أن هذا المعترك الفكري, والصراع الذي تحول إلى صراع أديدلوجي فيما وراء المحيط, يُذكرنا على نحو ما, بتلك المحاورات التي جرت بين مسيحيين ويهود, في باريس وبرشلونة في الأعوام 1240 و1263 و1413 - 1414 كان يمثل قمة ما فعلته (القوة الناعمة) في الولايات الأمريكية المتحدة - حينذاك والآن - لقد تكفلت بكل المعونات الفكرية, والدعم المعنوي والمادي لقيام الحركة الصهيونية، أما الدعم السياسي واللوجستي والعسكري، فقد قامت به ذراعها في وسط المحيط بريطانيا التي كانت تضع معظم بلدان الشرق العربي تحت حمايتها, وهي ساعية بكل ما كانت تمتلكه من وسائل لمواجهة الإمبراطورية التركية التي كان مجدها يؤذن بالأفول. ولقد حنثت بريطانيا بكل وعودها لكل البلدان العربية التي وقفت معها في مواجهة الأتراك الذين كانوا يفرضون ولايتهم على معظم تلك البلدان - كما يقول فيلبي وهو شاهد من أهلها - حينما أزاحت ظل الأتراك, عن تلك البلدان بسطت نفوذها هي عليها, وبدأت بفرض سيطرتها على الممرات البحرية والسواحل، واضعة أهم ممر استراتيجي بحري تحت سيطرتها, بادئة ومنذ وقت مبكر باحتلال عدن سنة 1838 لتكون في مكان قريب من سيطرة الأتراك وولاياتها. ثم سقطت القدس في يدها سنة 1917، ليبدأ بعد ذلك تنفيذ وصية (بلاكستون) وجميع الذين وقعوا معه رسالته تلك، وبينهم زُمر أصبحوا في موقع رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.
على أن ما يلفت النظر في افتتاحية (النيويورك صن) ليس الإفصاح عن ذلك الإيمان اليهودي الراسخ بما كُتب عليهم وبما آل إليه وضعهم وحسب, وإنما تلك النظرة النبوئية لما سيؤول إليه وضعهم مستقبلاً، لقد تم وضعهم وتكديسهم في شريط ضيق, وها هم الآن يواجهون المصير. عبر بناء الجدران، لتضيق عليهم الحياة بما رحبت.
ولأن تفسيرات (بلاكستون) للنبوءات في أسفار (العهد القديم) وهو تلميذ في ذلك (لجورج بوش) مبتدع تفسير (رؤيا حزقيال) قد وضعت في إطار مادي وسياسي, وهو ما دفع بكبير حاخامي جمعية أبناء العهد, أن يفند تلك المزاعم, متفقاً في ذلك مع ما رأته الكنيسة الشرقية على لسان (البابا شنودة) في هذا العصر (بعد أكثر من مائة سنة) يقول كبير حاخامي أبناء العهد:
(ليس هناك يهودي واحد فسر النبوات بأنها تعني ضرورة تجميع اليهود في بلاد آبائهم. وليس هناك يهودي واحد توقع مملكة أرضية عاصمتها القدس. إننا يهود هذا العصر لا نرغب في أن نعاد إلى فلسطين فلقد تخلينا عن كل أمل في مجيء مسيا سياسي. ونحن نقول الآن: إن البلد الذي نعيش فيه هو فلسطيننا, وإن المدينة التي نسكنها هي أورشليمنا. وإننا لن نعود أبداً لتأسيس كيان قومي خاص ولا نقبل بأن يُسقط علينا غيرنا ما يريدونه هم أنفسهم لنا). (ص 148، العُكش).
وما يلفت الانتباه هنا في قول الحاخام اليهودي ليس الرد على مزاعم مفسري النبوءات فقط, وإنما التعبير السياسي الذي يتخطى حدود الخطاب الديني، ليقول: (لقد تخلينا عن كل أمل في مجيء مسيا سياسي) و(إننا لن نعود أبدًا لتأسيس كيان قومي خاص, ولا نقبل بأن يسقط علينا غيرنا ما يريدونه هم أنفسهم لنا). وهو رد مباشر على جميع التوجهات السياسية التي كانت تُعبر عنها رسالة (بلاكستون) الذي كان يُلّح وبمنطق عنصري (أن اليهود مجرد مقيمين في أمريكا) ولسان حال اليهود وحاخامهم يقول ومن أين أتيت يا بلاكستون إلى هذه (الأرض الجديدة) وفي ذهن الجماعات اليهودية، أيضاً تلك الدعوة المطالبة بترحيل الزنوج إلى إفريقيا - بعد أن ساهموا في بناء المستعمرات والولايات الجديدة على أنقاض بلدان الهنود الحمر (استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة) إنها مقولة بلاكستون الشهيرة (أرض بدون شعب لشعب بدون أرض) وهي مقولات مضللة تعمدت إلغاء 112 مليون من سكان القارة التي اخترعوا لها اسماً (أمريكا) أبادوهم. وهو الأمر الذي لم يتمكنوا منه حتى الآن - بفضل من الله وتدبيره - سكان فلسطين هم أكثر من اليهود الذي تجمعوا من فجاج الأرض التي أرادت أن تتخلص منهم على رغم منهم ومن مراجعهم الدينية. إن المرابطين من أبناء فلسطين في الداخل هم جمرة الوقود المشتعل للتحرير, والمرابطون على الحدود هم كتائب المدد لأهلهم المرابطين تحت وطأة تنكيل المستعمر واستبداده. حتى لو فرح (شارون) وهو في غيبوبته باكتمال المليون السابع, فنحن الأكثر, لقد استشرفت تلك الجماعات اليهودية الإصلاحية، ومنذ وقت مبكر, مشكلة الجيوغرافيا والديموغرافيا. حينما عبرت افتتاحية صحيفة (حركة الإصلاح) (The Jewish Messenger) أول عام 1891 (أن ديانة أشعيا تحتاج إلى متسع أكبر من الأرض، نحتاج إلى عالم أرحب من ذلك الشريط الضيق من الأرض). وها هم الآن بعد أكثر من مائة عام من ذلك التحذير, وبعد أن تم حشرهم (وفصلهم وعزلهم وتكديسهم في فلسطين) حسب تعبير افتتاحية (النيويورك صن) في تلك الفترة، يواجهون هذا المصير, ويضيقون على أنفسهم بجدران العزل, بعد أن كان حلم المنظمة الصهيونية ومازال أن تكون حدودهم من النيل إلى الفرات. فأي دولة تلك التي ليس لها حدود معترف بها, وأي دولة تلك التي تعتمد في وجودها على دعم الدول الاستعمارية الكبرى, وأي دولة تلك التي تعزل نفسها عبر جدران, تتوهم فيها الحماية, إنهم بمثابة القابض على الجمر، على حد تعبير (أورنولد توتنبي) المؤرخ البريطاني، فهم المشهورون في أيديهم أسنة الرماح, خشية المباغتة, إنه الذل والخوف اللذان وعدا بهما, ألا تشعر ويشعر مواطنوها بأنهم بمثابة العضو الغريب الذي سيلفظه الجسم في يوم آت من الأيام؟!
وللأسف فإن هذا الاتجاه الإصلاحي اليهودي في وقته وزمنه, لم يجد قوة مساندة من المسلمين أو العرب في ذلك, حيث كان العالم الإسلامي مبعثرا وكذلك البلدان العربية التي كانت تخضع للحماية الاستعمارية الغربية التي وجدت في ضعف الدولة التركية التي كانت تبسط ولاياتها على معظم تلك البلدان فرصة لتقسيم العالم العربي, ولم يتم أي اتصال بتلك الجماعات اليهودية الحقيقية. وحينما كانت ترى في عودة اليهود إلى فلسطين مخالفة للديانة اليهودية الحقيقية. وحينما صدر وعد بلفور سنة 1917 وتزامن مع احتلال بريطانيا للأراضي الفلسطينية, وانتزاعها من الإمبراطورية التركية كانت معظم البلدان العربية مهمومة يتلمس وجودها على الخريطة السياسية, وهو الأمر الذي استغلته بريطانيا، لتنفيذ مخططاتها, ولم يفق العرب إلا في وقت متأخر، كانت الدول الغربية قد أحكمت مشروعها, وأرادت بذلك التخلص من نفي اليهود, وإبعادهم عن بلدانهم, ووضعهم في منطقة نفوذ لهم, تظل على مدي وجودها في حاجة إلى حمايتهم, كما أشارت رسالة بلاكستون سنة 1891م.
ما بين عام 1891 وأعوام 1917 و1948 و1967 ولاحقا وليس أخيراً عام 2003, لم نتعلم الدروس، ولحكمة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى. منح هذه الأمة تاريخاً حافلاً بالأمجاد وبالأزمات والفواجع, ما يكفل لأمة بدائية أن تتعلم منه, ولم تكن فاجعة سقوط غرناطة 1492، إلا بداية جزاء لأمة لم تعرف كيف تحافظ على إرثها وعلى مجدها. بكل مقاييس العقل والفهم نحن أفضل من أصحاب (البقرة الصفراء) وهذا هو الأمل المنتظر.
E:marspub2002@yhoo.com