Al Jazirah NewsPaper Wednesday  24/03/2010 G Issue 13691
الاربعاء 08 ربيع الثاني 1431   العدد  13691
 
نجوم مستعجلة.. تمر بالأجيال
فؤاد زكريا: سؤال الفكر والمعرفة
د. فوزية أبو خالد

 

كأن شموسا راكضة رمت شرارات رهيفة في ذلك الوسن المستديم بعالمنا العربي فأقلقت استتباب الرماد باحتمال الخروج على تواريخ الانطفاء. كأن نجوما مستعجلة تجرأت على نفخ شعلة الضوء في العتمة العميمة قبل أن تمضي.

لعل هذا هو بعض ما نشعر به حين يغيب الموت بمشيئة الله بعض الرموز التي وهبت زهرة عمرها وأذابت نور عيونها لتضيء الطريق لمجتمعها.

مثلما فتحت عدة أجيال من مثقفي اليوم حسها الأدبي الأول على أيام طه حسين وكوليت خوري وعلى حارة نجيب محفوظ وصفصافة محمد عبدالحليم عبدالله، وعلى عبقريات العقاد ورسائل مي زيادة وصالونها الأدبي وعلى باب لطيفة الزيات المفتوح, ورجال غسان كنفاني المسرحين تحت الشمس، فتحت بعض تلك الأجيال وجدانها الشعري على اجتراحات نزار قباني ومدرسة مجلة شعر وعلى جمال فدوى طوقان وفتنة محمود درويش. ومثلما تعلق قلب عدة أجيال بعود عدة أجيال مجددة ومتجذرة من الشيخ إمام إلى مارسيل خليفة ونصير شمة لاحقا مرورا بالتفرد الرحباني الفيروزي تعلقت وتعالقت بعض أجيال الثقافة العربية مع فعل تلك الندرة المستنيرة إبداعيا في خلق حالات ثقافية متعددة ومغايرة وأحيانا نقيضه جماليا على الأقل ليس للسائد السياسي وحسب بل للسائد الثقافي أيضا. ولقد كنت والحمد لله من ذلك الجيل المحظوظ الذي ولد على حافة زمنية كانت محفوفة بالأحلام وتحركت مفاتيح عقله حين صار في عمر الفضول على تلك الأسئلة الفكرية الكبرى المتشابكة في محاولة التفكير والتنظير المعرفي لهاجس كيفية الخروج على واقع العالم العربي المأزقي اجتماعيا وسياسيا الذي يوغل في الماضي إلى ما قبل السقوط في شرك الاستعمار الغربي ويذهب بعيدا إلى ما بعد سقوط بغداد على أيدي جيش الاحتلال الأمريكي.

ولقد كان المفكر العربي المصري فؤاد زكريا الذي انتقل إلى جوار بارئه هذا الشهر أسما علما من تلك الأسماء المتوردة، مثلما كان عبدالوهاب المسيري ومصطفى محمود وقبلهم زكي نجيب محمود وأحمد بهاء الدين ولطفي الخولي وعبدالكريم غلاب وعبدالله العروي والقصيمي وعاطف غيث وحسين مروة وهشام شرابي وإدوارد سعيد وعائشة عبدالرحمن ومحمد الغزالي وعبدالحليم أبوشقة وسواهم ممن أوردوا أنفسهم موارد الحياة وأعملوا عقولهم في عدد من الأسئلة الفكرية والمعرفية الكبرى والشاقة على اختلاف مرجعياتهم.

وقد كان تحدي أولئك المفكرين والباحثين ممن فتح جيلي عيونه على قلقهم المعرفي والفكري ليس فقط في عملية البحث من خلال مضائق تخلف الحاضر بما يليق في المقابل المضاد بمساهمة الحضارة العربية الإسلامية تاريخيا في صياغة الفكر الإنساني المعاصر، ولكنه كان يكمن متربصا أيضا في تحدي التعقيد الذي تخلقه سطوة السياسي على المعرفي ومحاولة السياسي اختطاف أسئلة الفكر والعقل تحت عباءته الفضفاضة أو في غياهب سجونه الضيقة أو في أحسن تقدير إقصاءها لصالح خطابه والخطابات الحليفة أو الأليفة.

إذن ليس إلا من باب الاسترجاع لما لابد أنه موثق في دفاتر التاريخ أن نتذكر وفاء لهم وتعلما منهم ذلك السجال السلمي أحيانا والشرس أحيانا أخرى الذي استقبلت به طروحاتهم مما لم يعانوا وحدهم أتونه بل طالت آلامه حتى أولئك التلاميذ الصغار وقتها الذين كانوا لا يفعلون أكثر من قراءة إنتاجهم أو تدريس كتبهم العلمية في بعض المقررات كمن تجرؤا مثلا (مثلي) على اعتماد كتاب فؤاد زكريا (التفكير العلمي) كأحد مراجع مادة البحث العلمي.

وبالرغم من عمليات المد والجزر التي تعرض لها الفكر المعرفي المستقل عبر مراحل مفصلية في التاريخ العربي القريب ابتداء على وجه التقريب من نكسة 67, حرب 73, مرورا ببداية مشاوير مشاريع السلام الاستسلامية, وصول إسرائيل إلى بيروت وخروج المقاومة الفلسطينية, الحرب الأهلية في لبنان إلى انتهاك صدام لحرمة الكويت وسيادتها الوطنية ودخول القوات العسكرية الأمريكية والأجنبية الأخرى إلى منطقة الخليج وما تخلل كل ذلك من تراجع توجهات سياسية كانت سائدة على المسرح السياسي والثقافي العربي وظهور أخرى تطلب السيادة بأساليب تعسفية تحاول فرضها وإن اقتضى الأمر بالعنف على الواقع وعلى الفكر تحديدا, فإن نفر من تلك الكوكبة المفكرة هي التي حاولت في بحثها عن أسئلة التحولات وجوديا واجتماعيا أن تحافظ وتطور رؤية بوصلية تقاوم بها ضبابية الرؤية مما صاحب بعض تلك المراحل المفصلية. ومن تلك المواقف موقف بعضهم الرؤيوي والمبدئي من احتلال صدام للكويت. ففيما مع الأسف تحزب الكثير من المثقفين العرب إما انتهازية أو التباسا وتشوشا في الرؤية الفكرية كل بحسب موقع نظامه السياسي من الموقف, كان فؤاد زكريا يرحمه الله من أولئك النفر من ذوي الرؤية المعرفية الإستراتجية على خلاف أصحاب تلك المواقف المتلونة بالتلاوين السياسية المتقلبة التي تنحاز للسياسي على حساب المعرفي وإن كانت محسوبة على الثقافة. فكان فؤاد زكريا واحدا من أولئك الذين تمتعوا إبان دخان تلك الأزمة وحرائقها بتلك الرؤية الثاقبة التي يمكن أن يشتق منها تلك المقولة التي أعشق ويعشقها كل عاشق للحق والقائلة بأن الأمة التي تختلف على الأساسيات أمة مهزومة في ضميرها. فكتب فؤاد زكريا حينها ليس فقط مدينا الاحتلال بل أيضا واضعا النقاط على الجروح في تحديد مسؤولية بعض مواقف المثقفين العرب ممن لم يدقوا الصهريج وارتضوا الركوب في موكب ديكتاتورية العسكر بما لم يكن مفاجأ تماما معه أن يفضي الأمر لذلك الاحتلال الصاعق. وهذا الموقف ليس إلا عينة على نسيج الفكر النقدي الذي أهدى فؤاد زكريا بحبره عددا من الكتابات والكتب للمكتبة العربية وللشباب العربي بما لا يمكن إلا أن يحترمه القارئ وإن اختلف مع منطلقاته لما فيها من احترام لعقل القارئ ولكرامته الإنسانية ولحريته.

ومع هذا لا بد من الاعتراف وإن اعتصرنا الألم بأننا مررنا في العقود القريبة المنصرمة من نهاية القرن الماضي على امتداد العالم العربي وخاصة في بعض مناطقه الطرية بمراحل حالكة من الحجر الفكري ومحاولة التجميد لمنجز من سبقونا على مستوى الجرأة في طرح الأسئلة المعرفية الجارحة لدرجة أن غابت بعض الرموز وأقصيت أصواتها وهي لا تزال حية ترزق بيننا. وقد كان من تلك الأصوات ثلة من الأسماء التي أخذ يغيبها الموت اليوم بعد معاركها العمرية الضارية على جبهة الفكر والمعرفة. والجارح أنه من غير الواضح ما إذا كان باستطاعتنا أن نعوضها بطروحات تكون امتدادا وتجاوزا لها في نفس الوقت. ولعل هذا الشك يرجع إلى تلك القطيعة أو العزلة التي فرضت على تلك الرموز في نهاية مطاف حياتها ففرقت باكرا بينها وبين تحولها إلى تيارات ومدارس فكرية قابلة للتداول العلني والتطوير إلا بين القلة التي ظلت قابضة على جمرة الأسئلة وإن في الظل.

لذا فكلما فقد جيلي والأجيال اللاحقة التي لحقها بعض من بصيص الضوء الذي أنبعث من فكر وسهر وكفاح عددا ليس كبيرا على أي حال ممن منحوا حياتهم للفكر والعلم أو الأدب ينتابني هذا الإحساس المتأرجح بين لوعة الفراق على رحيلهم وبين الأمل الجارف بأنهم وإن ذهبوا فإنهم لن يغيبوا بما تركوه من بصمات على عقولنا وأرواحنا.

كان فؤاد زكريا وسيبقى أحد تلك الرموز المضيئة والمؤثرة التي لا يمكن أن تغيب شمسها عن واقعنا خصوصا في لحظته التاريخية الراهنة المبعثرة بين غيوب الأمل والانكسارات المحدقة دون أن تشتعل فينا وجدانيا وفكريا تلك الشرارات التي نفخوها في وعينا المبكر بالمسألة الاجتماعية والسياسية كمسألة ثقافية ترتبط عميقا بالسؤال المعرفي.

تهاني قلبية لي وللوطن:

ظلت مؤجلة في عنقي تهنئة صادقة للزميلة السامقة الدكتورة خولة الكريع على إنجازها العلمي وعلى الوسام الشرفي وعلى التكريم. وهي تهنئة لا أعبر بها عن نفسي فقط بل عن كل نساء مجتمعنا السعودي والعالم العربي وقد حملها لي أمانة أيضاً طالباتي فمبروك لنا نجاح خولة.

أما قسم اللغة العربية كلية الآداب- جامعة الملك سعود بكل من مركز الدراسات الجامعية بعليشة وجامعة الملك سعود فلا أدري بأي نبع من ماء اللغة اكتب له التباريك على وجود نورة وأخواتها على حد تعبير د. الغذامي في طليعة نجاح مؤتمره العلمي. تحية للزميلة العزيزة د. نورة الشملان ولجميع الزميلات والطالبات بقسم اللغة العربية الذين عملوا بروح الفريق ليل نهار على مدار العام كما تابعت من د. وسمية المنصور ود. سعاد المانع. ونأمل من د. الجازي الشبيكي أن تعمم دعمها كعهدها على جميع الأقسام لنخوض تحدي مثل هذه التجربة العلمية الملهمة.



Fowziyah@maktoob.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد