«الجزيرة» - علي مجرشي
ضمن النشاط الثقافي للمهرجان الوطني الخامس والعشرين أقيمت مساء أمس بقاعة الملك فيصل للمؤتمرات محاضرة بعنوان «الإسلام في فرنسا»، حيث استعرض البروفيسور مصطفى شريف وزير التعليم العالي الأسبق بالجزائر فيها تاريخ الوجود الإسلامي في فرنسا والوضع الحالي للمسلمين هناك. ونوه المحاضر بالسياسة الحكيمة والرشيدة لخادم الحرمين الشريفين، في التعامل مع قضايا المسلمين وعلاقتهم بالآخر، وإطلاقه -حفظه الله- لمبادرة الحوار بين أتباع الأديان، مؤكداً أن هذه السياسة والمبادرة تسهم في تقوية التعاون والتعايش بين الشعوب.
وقدم د. شريف قراءة في تاريخ العلاقة بين فرنسا والإسلام.
وذكر د. شريف أن المخيال الفرنسي انطبع بصورة سلبية منذ البداية على المسلمين، وذلك منذ معركة بواتيه الشهيرة، والتي تبقى حدثاً، أثر كثيراً على علاقة فرنسا بالإسلام.
وقد تأثرت العلاقة بين فرنسا والمسلمين سلباً خلال الحروب الصليبية، حيث أظهر الفرنسيون عداءً كبيراً اتجاه الإسلام. وامتدت الأحكام المسبقة والسلبية ضد الإسلام والمسلمين من خلال السياسة الاستعمارية التي انتهجتها فرنسا في مستعمراتها التي كانت تدين بالإسلام. وكان المثقفون الفرنسيون يعتبرون الإسلام طائفة وبدعة، ويركزون على انتقاد الرسول صلى الله عليه وسلم. كذلك فإن في فتح القسطنطينية أثر سلباً على المخيال الفرنسي اتجاه الإسلام والمسلمين.
وأضاف الشريف على أن هناك جوانب إيجابية في العلاقة بين فرنسا والإسلام، مذكراً بأن المجتمع الفرنسي شأنه شأن المجتمعات الأوروبية استفاد من القيم والثقافة والتراث والعلم الذي جاءت بهم الحضارة الإسلامية، فلم تمنع العداوات انفتاح الملك فرانسوا الأول على المسلمين الذين اعتبرهم شركاء حول البحر الأبيض المتوسط، وقرر تعليم اللغة العربية في الجامعة الجديدة (Collège de France)، كما ترجم القرآن إلى اللغة اللاتينية لأول مرة في عام ???? م وكانت هناك فترات للتبادل والاحترام المشترك. والكل يتذكر الهدية التي قدمها الخليفة هارون الرشيد للإمبراطور شارلمان في القرن التاسع الميلادي، وكانت الهدية -التي أدهشت ملك الفرنجة وحاشيته -عبارة عن ساعة ضخمة بارتفاع حائط الغرفة تتحرك بواسطة قوة مائية.
وأضاف الباحث: في القرن العشرين، كانت فرنسا متقدمة في أوروبا في الممارسة السياسية اتجاه العرب والمسلمين من خلال السياسة الخارجية آنذاك، وكانت مدرسة الاستشراق نشطة وساهمت في التعريف بالعالم الإسلامي رغم جوانبها السلبية المعروفة أثناء الحقبة الاستعمارية.
وأسهم عالمان فرنسيان هما جاك بيرك ولويس ماسينيون، في التعريف بالإسلام والمسلمين، وقد قام جاك بيرك في أواخر حياته بترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية لإتقانه بصورة جيدة للغة العربية.
كما أكد الدكتور شريف أن الإسلام يمثل الديانة الثانية في فرنسا بعدده وحيويته، ففرنسا هو البلد الأوروبي الذي يوجد فيه أكبر جالية إسلامية، حيث أن الأغلبية منهم ولدوا هناك وترعرعوا في أحضانها، ويعتبرون أنفسهم فرنسيين، وهؤلاء يطرحون تساؤلات حول أوضاعهم كأقلية جديدة في المجتمع الفرنسي.
وذكر د. شريف أنه رغم تاريخ الإسلام القديم في فرنسا ورغم العلاقة الإيجابية في فترات مختلفة إلا أن هناك تراجعاً كبيراً في معرفة الإسلام في فرنسا، في هذا العصر، وجهل الفرنسيين بالإسلام وحضارته وثقافته وتراثه، هو الذي ولد الإسلاموفوبيا، وهي حالة كانت وراءها عدة أسباب:
أولاً: اختيار الغرب الإسلام كعدو جديد، بعد سقوط جدار برلين لإلهاء وتضليل الرأي العام الدولي، وصرفهم عن المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذه هي الإسلاموفوبيا كموقف عنصري.
ثانياً: ردود الأفعال غير العقلانية للمجموعات الضالة التي تستعمل العنف باسم الدين الحنيف، تعطي الفرصة لدعاية صدام الحضارات.
ثالثاً: تناقضات الحداثة ذات الطابع الغربي، والتي يريد فرض وجهة نظرها حول موضوع العلاقة بين الدين والحياة، والدين والدولة وهي منبع المشكلات.
رابعاً: فرنسا هي البلد الأكثر علمانية في العالم الغربي الحالي ومن المشكلات في أوروبا عامة وفرنسا خاصة، هو أن عصرنتهم وتقدمهم مبنيان منذ قرنين، أي بعد الثورة الفرنسية على تهميش الدين ليس فقط على الفصل بين هذا وذاك، وهم يستغربون كيف أن المسلمين يعيشون حياتهم اليومية والاجتماعية في إطار الدين الإسلامي.
وأكد البروفيسور شريف أن الخطاب السياسي لأقصى اليمين الفرنسي يركز دائماً على كراهية الإسلام والمسلمين، وقد أسهم هذا الخطاب في توسيع دائرة الإسلاموفوبيا، وفي وقت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمعنوية يستعمل المسلم ككبش فداء، كما أن بعض وسائل الإعلام تزيد في صب الزيت على النار، بالخلط والغموض بين المسلمين والمتطرفين، ومنع الحجاب للفتيات المسلمات في المدارس، والجدل الذي ظهر مؤخراً عن الهوية الوطنية الفرنسية، زاد الطين بلة، وهو ما خلق نوعاً من التذبذب، وأدى إلى حيرة وقلق في أوساط المسلمين الفرنسيين.
وقدم البروفيسور شريف رؤية تفاؤلية لمستقبل الوجود الإسلامي في فرنسا، مشيراً إلى أن جزءاً من الرأي العام الفرنسي يستنكر هذه الإنزلاقات والانحرافات ضد الإسلام ويتضامنون مع المسلمين،
كما أن السلطات الفرنسية تبذل مجهودات لإدماج مواطنيها المسلمين في المجتمع، حيث ساعدت على إنشاء وتأسيس مجلس وطني استشاري للمسلمين. وعلى الصعيد المحلي هناك إنجاز وتحقيق لبعض المكاسب، كبناء مساجد وقاعات للصلاة وغيرها.
أيضاً من الملفات والقضايا الأساسية المطروحة في فرنسا حالياً، هي قضية تكوين الأئمة حتى يتلقوا تكويناً منسجماً مع الوضع الداخلي ويتقنون مسألة التواصل والاتصال مع الغير. ومن المشكلات المطروحة وبخلاف الجاليات الأخرى، هو عدم امتلاك الجالية المسلمة لوسائل الإعلام.
واختتم البروفيسور شريف بالتأكيد على أهمية الحوار وتعايش المسلمين في مجتمعهم الفرنسي برغم كل المشكلات، فلا بد للجميع أن يتعلموا التعايش والتفاهم مع بعضهم البعض في إطار القوانين المشتركة للجمهورية، ويلزم كل مسلم وخاصة العلماء أن يساهموا في ترسيخ ثقافة التسامح ولا بديل لهذا الاختيار.
ونوه في هذا الإطار بالسياسة الحكيمة والرشيدة لخادم الحرمين الشريفين، الذي أطلق بنجاح مبادرة الحوار بين أتباع الأديان والحضارات المختلفة، وهو ما يسهم في تقوية هذا الاتجاه النبيل، والذي كانت له أصداء إيجابية على المستوى الدولي، ومن ذلك انعقاد مؤتمر مدريد حول حوار الأديان وحوار الحضارات، وتخصيص الجمعية العامة للأمم المتحدة لإحدى جلساتها لهذا الموضوع خير، ومن ذلك أيضاً اتخاذ الدورة الخامسة والعشرين للجنادرية شعاراً لها: عالم واحد وثقافات متعددة.
هذه المبادرات بلا شك كان لها مردود إيجابي على مستوى المؤسسات الثقافية في أوروبا، ومن ذلك أن إحدى الجامعات الأوروبية وهي جامعة كتالونيا المفتوحة بإسبانيا فتحت فرعاً دولياً للماستر للدراسات الإسلامية والعربية باللغة الفرنسية والإسبانية، كمساهمة للتعريف بالإسلام وتقليص الجهل بهذا الدين.
الطريق طويل ومحفوف بالعراقيل ولكن المجهودات التي تبذلها النخبة في إطار الحوار والتقارب تدفع في اتجاه إنجاز الكثير من النجاحات في هذا الجانب.