من مبادئ المجتمعات الإنسانية الراقية، حق «إبداء الرأي» في إطار عدم المساس بالأمور العقدية، أو التطاول على الثوابت الدينية. هذا الحق يعتبر ممارسة سلوكية ضمن منظومة أخلاقية..
ونتيجة طبيعية لنظام تربوي واجتماعي وأخلاقي لتقدم المجتمع، وتطور الفكر بشكل عام. فالحوار على ما لم نتفاهم عليه، والاتفاق على ما تفاهمنا عليه، هو وسيلة لتشذيب النفس، وتسليحها بعلمية واسعة الثقافة، وهذه هي المعادلة الصحيحة.
مع الأسف.. فإننا في واقع التطبيق نرى حالة مأزومة، وفجوة حضارية كبيرة، تزداد صعوبة وقتامة في ظل انحسار الآمال، من حيث عدم تقبل «الرأي الآخر»، ومحاصرته في زاوية الإلغاء -لا سيما- إذا كان هذا الرأي، لا يتفق مع ما يؤمن به صاحب الرأي الآخر -وبالتالي- تكون تلك الآراء في نظر هؤلاء مضيعة للوقت، وترفض -حينئذ- على أقل تقدير، هذا إن لم يخون أصحابها، أو يقصوا لمجرد أنه الآخر, وهذا - بلا شك - ضعف في آلية البناء المنهجي نحو القبول بالتعددية.
أمامنا صورة مشرقة تدل على سعة ثقافة الرأي والرأي الآخر، وذلك عندما انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة المنورة، في غزوة «بني قريظة»، ولم يكن منه إلا أن وضع سلاحه، فجاءه جبريل فقال: أوضعت السلاح والله إن الملائكة لم تضع أسلحتها؟ فانهض بمن معك إلى بني قريظة، فإني سائر أمامك أزلزل بهم حصونهم، وأقذف في قلوبهم الرعب. فسار جبريل في موكبه من الملائكة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أثره في موكبه من المهاجرين والأنصار، وقال لأصحابه -يومئذ-: «لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة». فبادر الصحابة -رضي الله عنهم- إلى امتثال أمره، ونهضوا من فورهم، فأدركتهم صلاة العصر في الطريق. فقال بعضهم: لا نصليها إلا في بني قريظة كما أمرنا، فصلوها بعد عشاء الآخرة. وقال بعضهم: لم يرد منا ذلك، وإنما أراد سرعة الخروج، فصلوها في الطريق, فلم يعنف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدة من الطائفتين.
إن عمق الوعي والنظرة المحايدة، أمران مهمان في توضيح الآراء وتقبل منطلقاتها، إذا كانت نتائجها صحيحة، لتعرف حدوده بموضوعية وإيجابية. بخلاف طغيان ال»أنا»، وسياسية «ما أريكم إلا ما أرى»، فهذه الرؤية التي ترى كل رأي خارج سياق ما يراه، هي رؤية خاطئة -وبالتالي- فإن اختلاف الآراء ليس دائماً سلبيا، بل يمكن أن تكون له نتائج إيجابية، «فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض».
drsasq@gmail.com