Al Jazirah NewsPaper Tuesday  23/03/2010 G Issue 13690
الثلاثاء 07 ربيع الثاني 1431   العدد  13690
 
خمسون عاماً وأنا أطارحك القضايا..!
د. حسن بن فهد الهويمل

 

قدري الغرائبي مع الرائد عبدالله بن إدريس أنني لا أنفك منه إلاّ لأعود إليه، كما لو كنت موكلاً بفضاءاته المعرفية والإبداعية أمشطها بقلمي، ولأنه متعدِّد الزوايا فقد تكون لكلِّ إلمامة لقطة مغايرة.

وتعدّد مجالاته المعرفية والإبداعية والعملية ربما توقع في الارتباك أو الابتسار، فهو شاعر خيرت له الشاعرية من أطرافها الثلاثة: الموهبة والثقافة والموقف، ولكنه مع هذا لم يفرغ للشعر، وهو كاتب تنازعتْه اهتمامات متعدّدة، وعملي مارس الفعل الثقافي والتربوي والصحفي، ومناضل عنيف عامر مخاضات التحرُّر العربي، ومؤرِّخ للأدب أنف من ظلم ذوي القربى فأرّخ لشاعرية نجد المعاصرة، ولسان حاله يقول: إنّ بني عمك فيهم شعراء، وناقد راوح بين الانطباعية والذوقية والمعيارية. ومن الصعوبة بمكان الخلوص به من هذه التعدّدية المربكة. عرفته منذ أن دخل علينا قاعة الدرس في المعهد العلمي ببريدة يوم أن كنا حدثاء عهد بالتهجِّي قبل خمسة وخمسين عاماً أو تزيد، وشدّني إليه كتابُه «شعراءُ نجد المعاصرون» عندما صدر قبل خمسين عاماً، وتوطّدت علاقتنا حين رأس كل واحد منا ناديَ منطقته الأدبي، وكدت أعيش الخلطة معه في كافة المحافل الأدبية محلياً وعربياً، ولم أقف في تواشجي معه على المعرفة أو اللقاء، بل تجاوزتْ العلاقات إلى موضعته والحديث عن جوانب حياته الأدبية والإبداعية، وكان اختراقي لعوالمه يوم أن أعددت رسالتي للماجستير والدكتوراه عن الأدب السعودي، حين تخصصت في الأدب العربي في المملكة كان لزاماً عليّ أن أمارس التأليف والتدريب والدراسة والإشراف والمناقشة والتحكيم للإبداع والمبدعين، فكان ابن إدريس حاضراً في الكثير من أعمالي، تناولت بُعْده النقدي يوم تكريمه في «نادي الرياض الأدبي» ودرست ديوانه «في زورقي» إبان صدوره، حاولت فض الاشتباك بينه وبين مجايله «عزيز ضياء» - رحمه الله - حين اختلفا حول مفهوم التراث ومشمولاته.

واليوم أشرف بالحديث عنه على هامش تكريمه، ولقد أشرت من قبل إلى ما يواجهه الدارس من حرج في لحظات التكريم، وقدري أنني تحدثت عن:

- عبدالله الفيصل .

- ومحمد حسن فقي.

- وحسين عرب.. يوم تكريمهم، غير أنّ المحافل الأدبية والنقدية تحترم المصداقية، ولا يجد أربابها بأساً في موضعة الذوات وشهادة النقاد بما علموا، وكلما تقدّمت السن بالأديب والمفكر تعمّقت عنده المعارفُ والتجاربُ وقلَّتْ عنده الحساسية، ورضي أن تجوش الأقلام عوالمه، ولا أحسبني سأقع في حرج عند الحديث عما لابن إدريس وما عليه، ولا سيما أنه يتوفر على إمكانيات إبداعية ومعرفية تفرض احترامه والإشادة بمنجزاته، وإن كان ثمة اختلافٌ معه، وهو حاصل ولابد، فإنه في إطار اختلاف التنوُّع، وتلك من الظواهر الطبيعية التي ألفناها معاً فلقد اختلَفَ هو مع لداته ومجايليه. وكانت له صولات وجولات حامية الوطيس مع عزيز ضياء وابن خميس وآخرين وما عيب مصطرعٌ ولا مصطلحُ متى كان الحق ضالة كل الأطراف. ولم تثِرْ رؤاه حفائظ المتابعين. والحياة لا تحلو إلاّ باختلاف وتباين وجهات النظر، وما أقدمه من إشارات حول مشروعية الاختلاف ليست تمهيداً لنقد مخالف، فابن إدريس قد مكّن لنفسه في المشهد المحلي والعربي.

ولم يَعُد مرتهناً لما يَجِدُّ من آراء حول منجزاته، والذين اقتسموا شخصيته في يوم تكريمه سيلتقطونه من زوايا مختلفة، وسيكون لكل متحدث مجاله واهتمامه، وحياة ابن إدريس قادرة على تنويع اللقطات.

فالحديث عن شاعريته سيجر المتحدث إلى أبعاد دلالية وفنية ولغوية يتقاطع فيها مع من سلف من شعراء العربية ومع من عايش، وأوسع دراسة وأعمقُها ما كتبه الدكتور «محمد الصادق عفيفي» في كتابه «عبدالله بن إدريس شاعراً وناقداً» ولقد نمضي معه فيما خلص إليه من نتائج أو نختلف معه، ولكن الدراسة كشفت عن أبعاده ومناهجه النقدية، وهي أبعاد ومناهج لها وعليها، وفي النهاية لا نسلِّم على الإطلاق للمعية والضدية.

وابن إدريس الذي عاش مخاضات عربية تمثّلت بالمد القومي والوطني والإسلامي ومخاضات أدبية تمثلت بالمحافظة والتجديد والحداثة ولم يكن في معزل عن رياح التغيير، ولقد يكون شعره في بعض مناحيه رصداً للمتغيرات السياسية والفنية، ولأنه عاش الأحداث بوعي ومعرفة فقد نافح عن فلسطين وأشاد بثورة الجزائر وشجب الاعتداء الثلاثي وأثنى على وثبة عُمان وتوجع من مآسي لبنان وتغنّى بالأمجاد الوطنية وأشاد بالفاتحين والمؤسسين أمثال الملك عبدالعزيز، وهو قد واكب شعراء نجد في أبعادهم الموضوعية مبرزاً اهتماماته الذاتية بالأوضاع العربية، والراصد لمساره الشعري يقف على نزعات توفيقية بين مجمل الخطابات السياسية والفكرية فهو مع المد القومي بمفهومه الوحْدوي لا بمفهومه «الأيديولوجي»، وهو مع الحس الإسلامي بمفهومه المقاصدي لا بحده وحَدِّيَّته الظاهرية وهو مع التجديد بمفهومه المتوازن لا بصلفه الحداثوي يتجلّى ذلك في التوفيق بين العروبة والإسلام والوحدة الإسلامية والرؤية الإسلامية لمستقبل الأمة، ومواكبته الشعرية والسردية لهموم الأمة تؤكد أنه لا يمثل الطفرة ولا القفز البهلواني.

لقد وُلد شاعراً وعاش شاعراً، والمناسبات التي تعصف بمشاعره سارةً كانت أو ضارة لا تتحكم في مساره، ولقد أشدت من قبل إلى ركوبه للمناسبة وإبائه أن يكون مركوباً موطأ الأكنان واستغلاله لها، وأنفته من أن يكون مُستَغلاً لها، ذلك في بعده الموضوعي، أما في الأبعاد الأخرى فقد واكب المجددين في الانزياحات اللغوية والإيقاعية والشكلية، وهو في كل ذلك لا يمارس الانقطاع ولا الذوبان، بل ظل وفياً للتراث منطلقاً به لا منطلقاً منه ولا فيه.

فلقد قارب الشعرَ الحرَّ إبداعاً وتنظيراً، فدراسته في مجلة «قوافل» قبل عقدين مؤشرُ وعي تام بأهمية المستجدات الشكلية وتصالح مبكر معها، والشاعر حين يلتزم العمودية يسيطر على الفن واللغة والشكل، ويعيد للشعر ألقه الإحيائي كما هو عند المتقدمين «كالبارودي»، و»ابن عيثمين» والمتأخرين ك»شوقي» و»الرصافي».

وعندما يبيح لنفسه الخروجَ على بحور الشعر الخليلية ويلتقي مع المنظرين والمبدعين أمثال «نازك الملائكة» لا يبعد النجعة، بل يلتزم التفعيلية والسطر الشعري ويستصحب الإيقاع ويحترم خصوصية الشعر التي انتهكها النثريون والغموضيون وأدعياء الإبداع، غير أنه لا يجلى مثلما يجلي في العمودية، ذلك أن نسقه الثقافي يشده إليه، وقد أشرت إلى هذه السمة في كتابي «في الفكر والأدب» وكتابي «النزعة الإسلامية في الشعر السعودي المعاصر» ولم يمض مع ما ذهبت إليه الدكتور محمد عفيفي الذي تقصى خصائصه وسماته وخلص إلى القول: بأنني أنصفته في شيء وأجحفت بحقه في شيء آخر، وتلك رؤيته التي لا أجد غضاضة في التفسح لها دون القبول بها.

على أنه متفاوت في انزياحاته، إذ جلَّى في الانزياح اللغوي ولم يكن في الانزياح الإيقاعي كذلك، فلم يكن بالقدر الذي حققه اللاحقون من شعراء المملكة، فالدراسة التي أعدها الأستاذ عبدالرحمن بن إبراهيم المهوس «الشعر السعودي المعاصر: دراسة في انزياح الإيقاع» أعطت مؤشرات تخطّت تجاوزات ابن إدريس الموزونة، حتى أنّ الدارس لم يرجع إلى شيء من إبداعاته، ولقد يكون السبب في ذلك اقتصار الدراسة على سبعة شعراء معدودين على الحداثة بشقيها: الفني والفكري، وهذا العدد المحدود لا يخول الدارس إطلاق هذا العنوان بهذا القدر من الشمولية كما فعل.

وابن إدريس فيما خلّف من دراسات نقدية لم يتجاوز الذوقية والانطباعية، وهو من قبل ومن بعد لم يحفل بالمستجد من المناهج والآليات اللغوية وتضلعه من التراث أضفى عليه مسحة المحافظة، فحين يتناول الظواهر الشكلية واللغوية والفنية يناهز التأصيل والمعرفية، غير أن إلمامه بالظواهر قليلة لا يكاد يذكر، والشعراء النقاد لهم أبصارهم وبصائرهم، وهم الأدرى بمضائق الشعر كما يقول «أبو نواس».

غير أنّ اشتغاله المبكر بالصحافة وإدارة المؤسسات الثقافية والتربوية حال دون متابعته للمستجدات النقدية ومن ثم ظل مرتهناً لآليات ومناهج سبقت الانفجار المعرفي وثورة الاتصالات.

وقيمة ابن إدريس في التأسيس للحركة النقدية ومواكبته الواعية للحركة الأدبية وإسهامه في تشكيل الظاهرة الأدبية في المملكة وأخذه في سياقه ونسقه الثقافيين يضمن له حقوقه.

وكل مؤرّخ للحركة النقدية والأدبية والإبداعية في المملكة، سيجد ابن إدريس واحداً من أبرز الروّاد الفاعلين والمؤثرين.

وأحسب أنه لا مزيد على ما قلتُ عنه من قبل وما تضمّنته كتبي والاسترسال في الحديث سيوقعني في التكرار والمعاد.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد