فرق بين السياسي والمثقف، والعلاقة بين السلطتين عبر التاريخ وفي كل الحضارات أخذت مناحٍ عدة وسارت في منعطفات وتعرجات لا حصر لها، وغالباً ما كان التنافر والتجاذب هو السمة الأبرز بينهما في كثير من الحقب التاريخية الماضية خاصة الحديثة منها وعلى وجه الخصوص منذ فجر انبثاق التيارات الفكرية المعاصرة إبان عشية الثورة الفرنسية المعروفة، وقلة هم ممن يتربعون على قمة الهرم السياسي ويمسكون بزمام السلطة الحاكمة يحظون بالمحبة والإعجاب ومن ثم المباركة والإشادة لخطواتهم الإصلاحية وتحركاتهم السياسية من قبل غالبية القوى الثقافية والفكرية في مجتمعاتهم المحلية فضلاً عن العالمية، وإن عد هؤلاء اليوم فإن على رأسهم خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية، ومن خلال تشرفي بحضور عدد من مهرجانات الجنادرية ومجاذبتي الحديث مع جمع من المثقفين سواء في بهو الفندق أو حين التنقل وعند العشاء وفي الجلسات الليلة والسهرات الحوارية الثنائية والجماعية ألحظ شبه الإجماع على شخصية أبي متعب الشمولية أدامه الله وحفظه ورعاه مع اختلاف بلدان هؤلاء المجمعين وتعدد ثقافاتهم وتباين تياراتهم وتجاذب السياسات التي يتعاطون معها وتنوع الهموم والنزعات والأهواء والنعرات بينهم، ولم يكن ذلك لخادم الحرمين الشريفين لولا توفيق الله عز وجل ثم للصفات الشخصية والكاريزما القوية التي يتمتع بها عبد الله بن عبد العزيز، ومفتاحها المحبة وبابها صدق المشاعر والقول والفعل وعنوانها التحلي بالصراحة والوضوح والصبر وسجيتها كرم النفس مع بذل وعطاء من غير منة أو ادعاء فضل، وشعارها احترام العقل أياً كان صاحبه، ومنهجيتها الحوار الحر مع الكل وقرع الحجة بالحجة، ومبعث هذا النهج السعودي الرائع، والمنطلق لهذه الركيزة الأساس في مشروع قائدنا الفذ الثقة بما عندنا (العقيدة الإسلامية الوسطية الصحيحة) والتي لا نقبل المساومة عليها مهما كانت الحال، واليقين الجازم بأننا مؤهلين من خلال الحوار دون غيره لجعل راية السلام ترفرف خفاقة في أرجاء المعمورة. والمثقف الحقيقي أياً كان تجذره ومهما كانت نزواته وتطلعاته يحترم ويقدر الخطاب المبني على العقل المرتكز على الدليل العارف بالواقع المدرك للتحديات المحترم للآخر ولما يحمله من قناعات الوعي بآليات ولغة العصر. والجنادرية بكل معانيها وبجميع أبعادها، بأرضها وإنسانها، برموزها وعنوانها، بفنها وجدرانها، بتراثها، بضيوفها، بفعالياتها، بتطورها، ومن قبل ذلك كله براعيها ومبدعها ومٌشّرفها تصنع التاريخ وتسجل بكل فخر التقاء السلطتين على مائدة الحوار الحضاري والثقافي بكل دلالاته وبجميع أبعاده ليس محليا فحسب بل عربيا وإسلاميا وعالمياً، والقارئ لتاريخ هذا المهرجان والسابر لأغوار ربع قرن يدرك كم كان هذا المهرجان وما زال حاضن لحوارات ساخنة ولقاءات عامرة وكلمات ما زالت حية رغم رحيل البعض من أصحابها وندوات ومحاضرات وأمسيات أحياها وشارك فيها واستمتع بها جمع من المثقفين والسياسيين بل وشاركهم نخبة من العسكريين فضلاً عن الجماهير عشاق الكلمة ومحبي الحرف. نعم عندما أجيل النظر في بهو فندق قصر الرياض مثلاً أتذكر تلك الزاوية التي كانت المجلس المحبب للبياتي والطيب صالح وعبد الله نور وغيرهم كثير، أتذكر في هذا المكان المليء بالشخوص والحكايات الثقافية والأدبية الفريدة خطوات صاحبي ورفيق دربي والقريب إلى قلبي ومن أكون معه في مثل هذه المناسبة الأستاذ والأديب الحائلي الرائع إبراهيم بن سليمان العيد رحمه الله رحمة واسعة. لقد انطبع هذا الاسم «الجنادرية» في جبين التاريخ وأصبح علامة بارزة وبصمة خاصة لا يجيدها ولا يمكن أن يتفنن في إبداعها كل عام ويبعث شعاعها في الأفق العالمي الربح سوى الحرس الوطني، وكم هو جميل أن يشٌرف كل عام أديب ومفكر سعودي بنيل شرف التكريم على يد راعي مسيرة بلادنا التنموية خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، والأجمل أن يتوج هذا الجهد بعد خمسة وعشرين عاماً بإعلان جائزة الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمية للثقافة والتراث ودمت عزيزاً يا وطني، وسلمت لنا أيها الرمز العزيز والقائد الفذ. وإلى لقاء والسلام.