يستمر الحديث عن قضايا البطالة وتوطين المهن والحرف، ويكاد يكون الموضوع الأكثر إثارة على صفحات الرأي، وذلك من أجل الحفاظ على الموارد البشرية والتنموية، وأيضاً الحفاظ على المكتسبات الوطنية ومستقبل الأجيال القادمة، وكثيراً ما تثار الأسئلة عن دور وزارة العمل في حل الأزمة الوطنية، وحسب وجهة نظري لا يمكن للوزارة أن تقوم بدور المشرع لحل مثل هذه الأزمة التي أصبحت مثل كرة الثلج، فالتأخير في إيجاد الحلول يزيد من قطرها، ومن آثار قوة ارتطامها بالاقتصاد والأمن الوطني.. كذلك يخطئ تماماً من يرمي بالكرة في ملعب رجال الأعمال، والسبب أن رجل الأعمال يبحث عن الربح المادي في ظل تطبيقات الاقتصاد الحر، مما يعني أنه أمام فرصة ذهبية لزيادة أرباحه في ظل سهولة استقدام العمالة الأجنبية، وكما قيل في أدبيات الاقتصاد الحر فإن علاقة رجل الأعمال بالمجتمع هي علاقة ذئبية أي غير ملتزمة بأخلاقيات أو مثاليات الوعظ والنصائح الاجتماعية، لكن لها علاقة مباشرة بالربح المادي..
كذلك لا أعتقد أننا غير قادرين على إيجاد الحلول، فالوطن يحفل بقصص نجاح لا يمكن تجاوزها في العقود الأخيرة، فمقدار الإنتاجية للمواطن في الشركات العملاقة مثل أرامكو وسابك وفي البنوك والمستشفيات الكبرى مجدٍ وتنافسي، والشركات العملاقة أمثلة رائعة على مهارة الكوادر السعودية، التي أضحت مع مرور الوقت تتبوأ مراكز القيادة وتملك الخبرة الفنية والإدارية..
تأتي الأزمة الحقيقية في قصور حصول السعوديين على فرص للعمل في الشركات شبه الوهمية والأسواق وشركات الليموزين، التي تدار من خلال آلية التستر المحلية أو عبر المتاجرة بالعمالة الأجنبية في سوق العمل، لكن حتى ذلك لم يخلُ من قصص نجاح عندما تكون هناك إرادة عليا، فنجاح التوطين في أسواق الذهب والخضراوات دليل على القدرة على تجاوز العوائق..
من أعظم التحديات التي يواجهها توطين المهن هو تفاوت الرواتب في القطاع الخاص، والمؤسسات العامة، فالراتب يتم عبر معايير لها علاقة بالجنسية وليس بالقدرة والمهارة أو حسب كادر مهني تقني يتم تطبيقه على الجميع بلا استثناء، وهي ثغرة في النظام المحلي لا تتفق مع منظومة حقوق الإنسان، وفيها إضاعة لفرص العمل على المواطن، إذ لا يمكن بأي حال أن يتنافس المواطن مع الوافد من دول تتدنى فيها مستويات الرواتب، لذلك يجب السير على خطى الدول الكبرى وإقرار نظام مهني يصنف المهن ويحدد الراتب لكل مهنة.
في إحالة إقرار كادر مهني تقني، سيكون من السهل تحديد حد أدنى للأجور، الذي سيحمي الأعمال التي تقوم على الأجر اليومي، ومن خلال تحديد الحد الأدنى للدخل، تستطيع وزارة العمل إحصاء نسب الذين يعملون مقابل الحد الأدنى للأجور، وحجم البطالة، وهو أمر يساعد الوزارة على دراسة أحوالهم الاجتماعية، والمعيشية، وعبر رصد معدلات ارتفاع المعيشة، تتم مراجعة تقييم الحاجة لزيادة أخرى في الحد الأدنى وهكذا..
بموجز القول نملك التجارب الناجحة التي تؤكد قدراتنا على تجاوز أزمة العمل للسعوديين في القطاع الخاص، كذلك أثبتت هذه التجارب حاجتنا لمشروع وطني لمعالجة توطين المهن في القطاع الخاص، ولعل تجربة توطين البائعين في أسواق الذهب تعني إمكانية نجاحها في الأسواق الأخرى، ودائماً ما نقرأ في التاريخ عن قصص التحولات العظيمة في كثير من الحضارات، ونحن ما زلنا نعيش في بارقة ذلك الأمل من أجل أن نجعل للحياة والمستقبل وطناً في الصحراء العربية.