كنتُ قد كتبتُ مقالة بعنوان (هذا هو العصر الصهيوني)، وذلك بعد شهور من احتلال أمريكا المتصهينة إدارة مع حليفتها بريطانيا الحاقدة على أمتنا للعراق.
وكان ذلك الاحتلال - كما قال رئيس أركان القوات الأمريكية - خدمة للكيان الصهيوني. وقد أشرتُ في تلك المقالة إلى سبب تسميتي هذا العصر بالاسم الذي سمّيته به، كما أشرت إلى أن تبنّي قسم من المسيحيين العقيدة الصهيونية، وانتشار الماسونية - ولليهود الدور الأكبر في نشأتها - بين أعداد من ذوي المكانة السياسية والاجتماعية في العالم، وبخاصة الدول المتقدمة علمياً واقتصادياً، كانا من أهم أسباب تغلغل النفوذ الصهيوني في العالم، إن لم يكونا أهم هذه الأسباب.
والذي أميل إليه - كما ذكرت في مقالة سابقة - أن هناك أمرين لهما دور كبير في حصول الصهاينة على ما حصلوا عليه من انتصارات. أول هذين الأمرين أن حركة لوثر البروتستانتية، التي قامت في منتصف القرن السادس عشر الميلادي، كانت نقطة انطلاق لما أصبح تصهيناً مسيحياً. وكانت طليعة من احتلوا أمريكا الشمالية من الأنجلو - ساكسون البروتستانت المتشبّعين - على العموم - بالعقيدة الصهيونية، فكراً وتطبيقاً. ومما نشأ عن ذلك التوجُّه التصهيني حماسة معتنقيه لعودة اليهود إلى فلسطين، ودعم قوتهم فيها، تمهيداً لعودة المسيح المنتظرة في رأيهم. وثاني الأمرين أن من أبرز سمات علاقات الغرب بأمتنا فيما يخص فلسطين بالذات خداع زعمائه لقيادات أمتنا، وانخداع بعض هذه القيادات بذلك الخداع. بدا ذلك واضحاً في خداع زعماء بريطانيا - رأس المكر - للشريف حسين بن علي - رحمه الله - وانخداعه بخداعهم، كما هو معروف. وما زالت أكثر قيادات أمتنا تخدع وتنخدع بما يعلنه الزعماء الغربيون.
كان الأمر الأول مهماً جداً؛ إذ يمثل في نظري انتصاراً عظيماً من انتصارات اليهود الصهاينة. ولقد ظهر أثره عملياً في تسمية بعض المسيحيين المحتلين لأمريكا بعض أبنائهم ومستعمراتهم بأسماء عبرية. بل إن عنوان أول درجة دكتوراه تمنحها جامعة هارفرد عام 1642م كان «العبرية هي اللغة الأم». ونتيجة لذلك التصهين لم يكن غريباً أن نادى الرئيس الأمريكي جون آدمز بقيام دولة مستقلة لليهود في فلسطين عام 1818م، أي قبل وعد بلفور بمئة عام.
وكان من الانتصارات المهمة للصهاينة إعلان وعد بلفور. وهذا أمر معروف لدى الكثيرين. لكن انتصاراً آخر لهم أعقبه وهو وقوع فلسطين تحت انتداب بريطانيا، التي كان عدد من زعمائها المشهورين في طليعة المتحمّسين لدعم الصهاينة. ومن نتائج تلك الحماسة لهم تعيينها أول مندوب سام لها في تلك البلاد صهيونياً معروفاً كان همّه الأكبر تمهيد الطريق للصهاينة ليرسخوا أقدامهم هناك.
ومرت السنوات تلو السنوات، وعجلة خداع قادة الغرب لأمتنا تدور وانخداع كثير من قادة هذه الأمة بذلك الخداع إلى أن حقق الزعماء الصهاينة حلمهم بإعلان قيام دولتهم على أرض فلسطين عام 1948م، مؤيدين تأييداً غير محدود من قبل أمريكا المتصهينة بالدرجة الأولى، والدول الغربية عموماً، رأسمالية وشيوعية، بالدرجة الثانية. ولقد ظهر عند حدوث العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م شيء من التضامن العربي المحمود مع تلك الدولة المعتدى عليها، لكن من نتائج ذلك العدوان أن تمكن الكيان الصهيوني من الوصول إلى مياه البحر الأحمر. وكان هذا انتصاراً ليس قليل الأهمية. ولأنه كان - ولا يزال - يجمع بين فرنسا والكيان الصهيوني عداوتهما لأمتنا، عربية وإسلامية، انتصر الصهاينة ببناء مفاعل نووي بمساعدة فرنسية. ولهذا ما له من ثقل في ميدان التوازن العسكري في المنطقة.
أما الانتصار العظيم جداً، الذي حققه الصهاينة، فكان استيلاءهم على بقية فلسطين - بما فيها القدس - وأراض عربية أخرى عام 1967م. وإذا كان التضامن العربي مع مصر قد تجلّى إبان العدوان الثلاثي التآمري عليها سنة 1956م فإن المقاتل العربي على الجبهتين المصرية والسورية قد أظهر عظمته ومقدرته في حرب 1973م. لكن من حقق معجزة عبور قناة السويس وتحطيم خط بارليف في بداية تلك الحرب ضرب في نهايتها، أو صدم، برؤيته قسماً من الجيش المصري محاصراً من قبل قسم من الجيش الصهيوني غرب القناة. ولا تسأل عن السبب. فكثير من الأمور قد يذاع سرّها وقد تبقى سرية. على أنه لم يحلّ عام 1979م إلا وقد انتقل إلى الدار الباقية رموز القيادة العربية، الذين كان لهم الدور الأكبر والأهم في إظهار عظمة الإرادة المتجلّية في أوضح صورها بقرارات مؤتمر الخرطوم عام 1967م.
وهكذا كان عام 1979م هو العام الذي وصفه أحد قادة الكيان الصهيوني بأنه عام تحقق فيه للدولة الإسرائيلية انتصار لا يضاهيه إلا الانتصار بقيام تلك الدولة عام 1948م؛ ذلك أن الصهاينة نجحوا باتفاقية كامب ديفيد في إخراج مصر العظيمة -بكل ما تملكه من إمكانيات - من ميدان المواجهة مع الكيان الصهيوني المحتل لأراضي أمتنا ومقدساتها. كان الموقف العربي هو أن ما أُخذ بالقوة لا يُستعاد إلا بالقوة، وبخاصة إذا كان المحتل عدواً مثل الصهاينة الذين يرون أن كل ما يرتكبونه من جرائم فظيعة حلال لهم، دينياً وعرقياً، وإذا كان الاحتلال احتلالاً استيطانياً يريد إحلال شراذم من كل أقطار الأرض محل شعب كان على أرضه آمناً مستقراً. وأكثر حركات التحرير في العالم وجدت أن ذلك الموقف هو السبيل الصحيح إلى التحرر من الاستعمار. هو موقف غالي الثمن، لكن لا بد مما ليس منه بد. وآثار ما حدث نتيجة تلك الاتفاقية في كامب ديفيد عام 1979م، وهي الاتفاقية التي كوفئ الموقعان عليها بجائزة نوبل - وأحدهما كان مجرم حرب كما اعترف بارتكابه الإرهاب في كتابه الثورة - سوف تكون مدار الحديث في الحلقة القادمة إن شاء الله.