يقول مايكل إيسنر ضاحكاً: «عندما هبطت الطائرة، فتحت جهاز البلاك بيري، وها هي ذي صورتي وأنا بالطائرة، في مدونة تقول: طائرة عامة! هل حدث شيء لمايكل إيسنر؛ حتى لا يستطيع تحمل نفقة طائرة خاصة؟».
قصة إيسنر (المدير التنفيذي السابق لدزني) توضح إلى أي درجة عملت شبكة الاتصالات الإنترنتية على تحويل النشاطات الشخصية الخاصة إلى مسألة عامة.. وإلى أي مدى بلغت سرعة الخبر واتساع انتشاره.. وكيف أصبحنا بضاعة.. إنه المسرح يتسع، على حد وصف «كِن أوليتا» في كتابه «Googled « الذي يرى أن العالم يتجوجل من حولنا، فنحن حالياً لا نبحث عن المعلومات بل نجوجلها، أليس أكثر من ثلثي الباحثين في العالم يبدأون بحثهم من جوجل؛ فهي الشركة المعلنة الأولى في العالم بريع يقدر بعشرين بليون دولار في السنة، والرقم يتصاعد ويرجح أن يصل إلى مئة بليون.. حينها ستتم جوجلتنا جميعاً!
ويتساءل أوليتا: هل كان باري ديلر على حق عندما قال إن العالم ينتقل نحو البيع المباشر بلا وسيط (بائع) ولا محل بيع أم أنه تفكير رغائبي لمدير مشروع تجاري بالإنترنت سيستفيد من صحة هذا التوقع أو أن جوجل نفسها تعتبر هي الوسيط لأنها تجلب معاً: المستخدم (المشتري) والمعلومات (البضاعة) متضمنة الإعلانات التجارية؟!
جوجل أو «العالم في محطة اتصال» - كما سمَّاها سلوتر عميد معهد للشؤون الدولية والعامة - ستجعل الإعلاميين قلقين من تحويل العالم العمودي (التسلسل الهرمي) إلى عالم أفقي من شبكات الاتصال.. الإعلام الآن يتشكل عبر الإنترنت في شبكة اتصالات واحدة تضم ملايين الأفراد عبر القارات.. نعم، هذا سيجعل العالم أكثر انفتاحاً، إنما ثمة «ولكن!»..
كل شركات الإعلام تائهة لا تعرف إلى أين ستوجهنا تكنولوجيا الموجة الرقمية، وكيف ستقودنا، لكن هذا التيه ليس لدى جوجل؛ فتلك الشركة لديها وضوح مثل شهيتها المنفتحة والمنتفخة. يقول أوليتا: طلبت من إريك المدير التنفيذي لجوجل أن يصف لي استراتيجية جوجل، فذكر أن كل شركات الإعلام الضخمة هي موزِعة ومنتجة، ونحن ننافس تلك الموزعة. جوجل تريد أن تكون الوكيل الذي يبيع الإعلانات في كل برامج الموزعين بالعالم، أياً كانت مطبوعة أو مرئية أو مسموعة. ويوضح إريك: إن تكنولوجيتنا تتطور نحو الأفضل، وسنتمكن من أن نحل محل الشركات الضخمة؛ فهم لا يقومون بجهد كاف من أجل الأتمتة (جعل الشيء أوتوماتيكياً)؛ لذا فهدفنا النهائي هو الإحلال بدلاً من تلك الشركات عبر الأتمتة.. فجوجل تبيع تكنولوجيا.
ولعلنا نتساءل مثلما سأل إعلامي بارز في أحد المؤتمرات الدولية: ما قيمة ما تنتجه جوجل للمجتمع، سوى أنها تحول المال من خزينة شركات الإعلام التقليدية إلى خزينة جوجل؟ وكان رد سيرجي براين أحد مؤسسي جوجل: «الإجابة بسيطة، الناس مع المعلومات الصحيحة يتخذون قرارات أفضل لأنفسهم. والناس مع الإعلان التجاري السليم سيشترون الأشياء المناسبة لهم». وفي موضع آخر يقول براين بكلام لا يخلو من تباهي المنتصر: إن إرادة جوجل هي التجربة وقبول المخاطرة والابتكار.
ولكن الشركات ذات الشهية الضخمة قد تسمن وتترهل، كما يقول مارس أندرسون الذي يرى أن جوجل تهدف إلى عمل كل شيء، ولكنه يشك أن ذلك يمكن أن ينجح، رغم أننا في عصر رقمي تغيرت به قواعد اللعبة التنافسية، ويصعب التوقع.
حسناً، ما المشكلة إذا كان الزبون سعيداً بالمتاجرة بمعلوماته الشخصية ووجود الإعلانات المزعج طالما أن المقابل هو خدمات مجانية أو رسوم منخفضة جداً بحسب ما يطرح أروين جوتلب؟ صحيح أن لا خدمة تضاهي أو تنافس الخدمات المجانية، إنما ثمة تساؤلات عديدة وخطورات متنوعة.. ثقافية واجتماعية واقتصادية..
فمن الناحية الاقتصادية: هل تنجح الإعلانات في اقتحام شبكة الاتصالات الاجتماعية في الإنترنت؟ المواقع الاجتماعية التي يغشاها الملايين كل لحظة، مثل فيس بوك ويو تيوب وماي سبيس تعاني من قبول المعلنين لوضع إعلاناتهم في تلك المواقع. لماذا؟ روبرت بتمان (الرئيس السابق ل AOL) يجيب بأنه رغم أن تلك المواقع تملك جمهوراً أكبر بكثير من أهم البرامج التلفزيونية إلا أنها بالكاد تربح؛ لأن المعلنين لا يريدون أن يضعوا إعلاناتهم في بيئة غير مناسبة للإعلان؛ مما قد يؤدي إلى مردود عكسي.. فالناس في شبكات الاتصال الاجتماعية قد يتخذون موقفاً سلبياً من البضاعة المعلنة؛ لأنها تزعج طبيعة تواصلهم الاجتماعي..
أما المواقع الرابحة بالإعلانات، فإن اعتمادها الكامل على الإعلان له تأثير في المصداقية والجودة.. ولأن المعلنين يتوجهون إلى المواقع الأكثر جماهيرية، فإن الشبكات الإخبارية تضطر أن تنشر أخباراً تميل إلى إرضاء الزبائن، بمعنى أنها تراعي نفسية المتلقين لكي تجذبهم، هذا ما جعل شبكات الأخبار في السنوات الأخيرة تصبح أنعم وتتوجه إلى السطحية بحسب ما اعترف كثير من مديري تلك الشبكات وفقاً لما ينقله أوليتا عنهم.
ليس هذا فحسب، بل إن شبكات الأخبار الرصينة أصبحت تواجه مصاعب جمة في الاستمرار بجودتها العالية أمام منافسة الشبكات المعتمدة كلياً على الإعلانات.. فحالياً تواجه نيويورك تايمز وواشنطن بوست ووول ستريت جورنال ورطة، حيث تقاريرهم ذات جودة عالية وتتطلب تكلفة باهظة.. في السابق كان جزء من التكاليف يذهب عبر القيمة المباعة للصحيفة، ولكن الصحف الآن مجانية بالإنترنت، والمبيعات تتناقص تدريجياً؛ فمن سيغطي تلك التكاليف غير الإعلان؟!
الإنترنت بجوجله يفرض على شركات الإعلام التقليدية أن تهاجم وتدافع في آن واحد. يوضح جف زوكر المدير التنفيذي ل(إن بي سي) العالمية: إنك حين تصبح رئيس تحرير أو مديراً تنفيذياً في العصر الرقمي ستشعر بالحماسة الهائلة والخوف الشديد! زوكر قلق بسبب سرعة انهيار بعض الشركات، وبتأرجح بعضها الآخر بين الصعود والهبوط.. وهو قلق بسبب سرعة ظهور الموضة التي تسبب هوساً يستحوذ على الناس لفترة قصيرة. وأكثر ما يخشاه هو تخريب القيم من خلال الابتكارات التكنولوجية المتسارعة دون هوادة.. خشية من أن تدع ذلك التسارع يصعقك حد الشلل.. يقول إن الخشية ليست لأني سأفقد الفرصة (في مؤسسة إعلام تقليدية)، بل من أن النموذج التجاري سيتحطم بينما نحن نبتكر ونتوه.. إنه ما أطلق عليه زوكر «تيه المبتكرات»!
alhebib@yahoo.com