كنت ولا أزال من مشاهدي قناة الجزيرة، فهي تشدني لسببين رئيسين، الأول هو التزامها بثوابت الأمة العربية وتطلعات شعوبها إلى الديمقراطية والوحدة، والثاني هو المهنية العالية في تقديم الأخبار وشبكاتها المنتشرة من المراسلين وتغطيتها شبه الفورية لأحداث العالم وقدرتها على استقطاب المتخصصين للإدلاء بدلوهم في أي موضوع يطرح للتعليق أو المناقشة.
لذلك فقد كانت متميزة في تغطيتها فيما يخص العرب، الحرب الإسرائيلية على لبنان 2006.. والحرب الإسرائيلية على غزة 2009 لعرضها على الهواء الأحداث والتدمير والقتل من داخل الكيان الصهيوني ومن خارجه وحوله والعالم، وكنت دائماً أنتقد الحكومات العربية التي تحاول تكميم مذيعيها أو تغلق مكاتبها، أو تمنع مراسليها من نقل ما يجري في أي بلد عربي، ليس انتصاراً للقناة بقدر ما هو انتصار لمبادئ الأمم المتحدة والمواثيق الدولية التي تحمي حرية التعبير والشفافية وفضح القمع والدكتاتورية.
إلا أن ما لفت نظري في أحداث اليمن قبل العبث الحوثي وبعده، هو تسليط القناة الضوء على ما يُسمى بالحراك اليمني الجنوبي، وبثها المتكرر لمشاهد المظاهرات والاحتجاجات التي ترفع أعلام دولة اليمن الجنوبي التي اتحدت بإرادة شعبية مع الشمال.
تدرك قناة الجزيرة أن ما يجري ليس حراكاً يبحث عن المساواة والعدالة وتوزيع الثروة، بل هو انقلاب على أحد ثوابت الأمة التي تبنتها قناة الجزيرة منذ إنشائها، وهي الدعوة إلى الوحدة ونبذ الانقسام، فلقد بدا لي وكأن ما تنقله قناة الجزيرة من أحداث في جنوب اليمن هو دعوة للانفصال والتشرذم وتحريك النعرات التي دفنت مع وحدة شطري اليمن ديمقراطياً وعمدت فيما بعد بالدم، وإن هي حاولت استضافة عدد من المتحدثين من الجانبين لإظهار حياديتها الإعلامية.
إن تشجيع أي دعوة للانفصال في أمتنا العربية، وإن كانت في الصحراء الغربية، هو استباحة لثابت قومي وطني عربي عاشت على أمل تحققه أجيال من العرب، وبالتالي فإن أي تشجيع ولو بالكلمة والصورة على انفصال ما هو قائم من وحدة، بعد خيانة لذلك الثابت، واسمحوا لي باستعمال هذه الكلمة فهي المعبرة عن الشفافية الجارحة لما يجري في جنوب اليمن.
وباعتبار قناة الجزيرة أحد رواد الشفافية، فعليها أن تقبل علناً ما اتخذته حكومة اليمن من إجراءات ضدها، وأن تعتذر عما بدر منها، وأن تلجم تطرفها وانحيازها المخنجر المعادي لثوابت الأمة، وألا تحاول التبرير أو تقديم الدفوع، وإلا فقدت مصداقيتها إن لم يكن في نظر جميع مشاهديها، فعلى الأقل عند بعضهم، وفي الحد الأدنى في نظري، وأنا المتهم بالإدمان على مشاهدة قناة الجزيرة.
المهنية العالية في تغطية الأحداث السياسية، لا تعني تغييب الثوابت، والإبهار الإعلامي لا يجب أن يتقدم على الوفاء لتلك الثوابت.
وآمل أنا المحب لقناة الجزيرة ألا ينطبق عليها ما روي من أن أحد الصحفيين الإنجليز الذي قال للزعيم المصري سعد زغلول إن لويد جورج المعروف لدى الشعب المصري بأنه سبب كل أزماتهم في ذلك الوقت، قد صرح بأن صحة الزعيم المصري تتحسن بالأزمات السياسية.. فرد عليه الزعيم المصري قائلاً: «ربنا يطول في عمره».