قال لي صاحبي: وعدتُ قريباً لي بوعد فلم أستطع الوفاء به، ولم يقبل عذري، فأنا من أمره في حيرةٍ واضطراب، لا سيما وأنه قد بالغ في موقفه مني حتى وصفني في مجلس ورد فيه ذكري بعرقوب الكذوب، وأنا -والله- لم أكذب ولم أتعمَّد عدم الوفاء بما وعدته به، ولكنَّ عوائق الحياة حالت دون ذلك وقد شرحتها له بالتفصيل وكأنني أشرحها لصخرة صمَّاء، لأنَّه قد أقنع نفسه بأنني أكذب عليه، فماذا أصنع؟ وما رأيك في موقفه، وما معنى عرقوب؟
|
قلت لصاحبي مبتسماً: أما ماذا تصنع، فليس أمامك إلا الصَّبر والدعاء لقريبك بالهداية وترك فرصة للزمن فإنه سيخفِّف من وطأة الأمر، وما دمتَ قد أبديت له عذرك وأنت صادق فيه فقد أدَّيت الذي عليك، مع أنَّ الواجب عليك فيما تعد به أن تحاول الوفاء جهدك دون تقصير، وأنْ تحتال لذلك بكل حيلة ممكنة حتى تبرِّئ نفسك من إثم عدم الوفاء بالوعد، فإذا عجزت ولم تستطع فقد برئتْ ساحتك -إن شاء الله- فإنه لا يكلِّف الله نفساً إلا وُسْعَها. أما رأيي في موقف قريبك، فإنه قد أخطأ في الاستسلام لسوء الظنِّ بك، وعدم قبول عذرك، فإن الكريم يقبل العذر، بل يبحث لصاحبه عن عذر، وقد توافق النقل والعقل والعرف على وجوب قبول عذر المعتذر، وإعذاره وإبداء الرِّضا له، والبعد عن تجريحه وتكذيبه خاصة إذا كان عذره صادقاً واضحاً. ومن المتعارف عليه عند البشر في كل عصر أنَّ قبول عذر المعتذر من صفات أهل الشيم والكرم والقلوب السليمة، وقدوتنا في ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد ثبت في سيرته العطرة أنه كان يقبل عذر كل من اعتذر إليه، ويبدي له الرضا، ولا يكذِّبه ولا يجرِّحه، ولا يعاتبه.
|
ولعل أوضح الأمثلة على ذلك قبوله لأعذار المتخلفين عنه في غزوة تبوك جميعاً حتى كشف الله سبحانه وتعالى له حقيقتهم بما أنزل من الآيات في ذلك الشأن.
|
إنَّ الذين لا يقبلون الأعذار يتعنَّتون، ويؤذون أنفسهم بعدم صفاء قلوبهم، كما يؤذون من يعتذر إليهم بتكذيبهم، وسوء ظنهم فيهم.
|
أما معنى عرقوب يا صاحبي فسأذكره لك من باب الفائدة ولعل قصته تروِّح عن نفسك لما سترى من الفرق الكبير بين موقفه وموقفك.
|
هو كما تقول الروايات اسم لشخص من العماليق (عرقوب بن معبد) وكان رجلاً ذا مال كثير، وكان له أخ فقير، فجاءه أخوه ذات يوم يطلب مساعدته فأبدى له عرقوب الاهتمام وقال له: هذه النخلة إذا أطلعتْ لك، وكان وقت إطلاع النخل قريباً، فذهب أخوه راضياً بهذا الوعد، وانتظر إطلاع النخل فلما أطلع جاء إلى أخيه وقال: هذه النخلة قد أطلعت، فقال له عرقوب: دعها يا أخي حتى تصير بلحاً، فانتظر أخوه حتى صارت بلحاً، فجاء إلى أخيه وقال: لقد أبْلَحَتْ النخلة، فقال عرقوب: دعها حتى تصير بُسْراً، فانتظر أخوه حتى صارت بُسْراً، فجاء قائلاً: إنَّ النخلة قد أبْسَرَتْ، فقال عرقوب: خير لك أن تنتظر حتى تصير رطباً، فانتظر أخوه الفقير المسكين حتى صارت رطباً، فأسرع إلى أخيه قائلاً: لقد أرْطَبَتْ النخلة يا عرقوب، قال له: دعها حتى تصير تمراً فإنه أحسن، فانتظر المسكين حتى صارت تمراً، فجاء مسرعاً يمنِّي نفسه وأسرته الفقيرة بالتمر الناضج الشهي، وحينما وصل رأى النخلة قد صُرِمَتْ وما بها عِذْقٌ ينطق، وكان عرقوب قد سرى عليها بليلٍ فصرمها ودسَّ عذوقها في داره، فأسرع الأخ الفقير إلى أخيه عرقوب وسأله عن التمر الذي وعده به وظلَّ ينتظر إتماره زمناً، فقال له عرقوب: ما وعدتك بشيء وليس لك في التمر نصيب. وهنا عاد أخوه منكسراً حزيناً، وأصبح عرقوب بهذا الموقف عنواناً على إخلاف الوعد والكذب.
|
رأيت الحزن على وجه صاحبي فقلت له: لماذ تحزَنْ ما دمت قد عرفت قصة عرقوب، فمن المفروض عليك أن تفرح لما بين موقفك وموقفه من الفارق الكبير؟ قال حزنت لشيئين، أولهما انكسار خاطر أخي عرقوب الذي عانى هذه المعاناة المرَّة مع أخيه، وسوء ظن قريبي بي حتى أجاز لنفسه أنْ يشبِّهني بعرقوب. قلت لصاحبي: وهل تتوقع أنَّ قريبك يعرف قصة عرقوب بتفاصيلها؟ قال: ما أظنُّ ذلك. قلت: فالتمس له عذْراً فلربَّما لو عرف قصة عرقوب على حقيقتها لما شبَّهك به أبداً. أرح ذهنك من سوء التفكير يا صاحبي.
|
|
هَدْم النفوسِ هو الهزيمة كلُّها |
مهما تألَّق جانب التَّعميرِ |
|