ما إن تُلامس مفردة «الجنادريّة « مسامعي حتى يدور في خلدي تراث آبائنا وأجدادنا، فيفوح معها عبق الماضي الجميل، ثم ترتسم في ذهني صورة مشرقة عن وطني، بين هذا الماضي بعراقته وأصالته، وبين حاضرنا المبهج بتطوره وحضارته، ثم ما تلبث أن تنقلني هذه الصورة الذهنية إلى صور أخرى متعددة، تتصل بالشأن الثقافي والفكري لإنسان هذه الأرض.
والجنادريّة منذ انطلاقتها منذ ما يربو على خمسة وعشرين عاماً وهي تخدم مجال التراث العربي السعودي في الجزيرة العربيّة، وتُعنى في الوقت نفسه بالثقافة والفكر العربي وعلاقته بالآخرمن خلال ندواتها ومناشطها المنبرية، انتهاءً بالجائزة العالميّة التي أعُلن عنها قبل بدء المهرجان.
هذا المنجز المهم للجنادريّة طيلة السنوات الماضية ونجاحها في إيصال رسالتها النبيلة في التواصل والتلاقح الحضاري الإنساني جعل منها نموذجاً بارزاً لمفهوم التواصل، يُضاف إلى ذلك - وهو الأهم في تصوري - ثقافة الاحتفاء بمكوّنات الهُويّة، التي تتشكّل من: التراث بشقيّه المادي المحسوس، والمعنوي والاجتماعي من خلال عرض العادات والتقاليد والموروث الأدبي، الذي يرمز لجذور هذه الهُويّة ومدى عمقها، أما مكوّن الثقافة والفكر فيمثّل الحاضر بامتداده المستقبلي. ويستمد قوة هذا المكوّن من مكوّنٍ آخر للهوية هو اللغة العربية بوصفها لغة الثقافة والفكر معاً، فجل الأطروحات الثقافية والفكرية التي تقدّم عبر أروقة الجنادريّة هي باللغة العربية، الأمر الذي يبشّر بمستقبل مشرق للغة العربية ولهُويتنا بوصفها مصدر اعتزاز للأمة العربيّة كافة.
ومن خلال تتبع خط سير الأطروحات والقضايا الثقافية والفكرية في المهرجان منذ انطلاقتها نجد أنها انطلقت من قضايا ذات مساس بالبيئة السعودية البحتة أيّ من الهُويّة المحليّة المحددة بحدود المملكة، حيث تناولت جهود الملك عبدالعزيز - طيّب الله ثراه- وقضايا الأدب السعودي بأنواعه الشعرية والقصصية والحراك الثقافي والتراثي السعودي والمسرح والموروث الأدبي في المملكة، كما كانت تقام على هامش هذه الندوات الكبرى محاضرات دينية وأدبية نسائية، يضاف إلى ذلك الأمسيات الشعرية.
ومع إطلالة عام 1416هـ مثّل هذا العام للمهرجان الانعطافة المهمة، والتحوّل الأكبر في توجّهه من الاحتفاء بالهوية في نطاق ضيّق إلى مفهوم الهُويّة الأعم والأشمل لنا بوصفنا عرب ومسلمين، وهو الهُويّة العربية والإسلامية، حيث طُرحت قضية الإسلام والغرب، وأنبئت عن وعي جديد ينهض بهُويتنا وركائزها (الدين الإسلامي، واللغة العربية، والتراث) فتناول المهرجان آنذاك قضايا يمكن أن نطلق عليها (قضايا المحك) كقضايا الإسلام والغرب: الجذور التاريخية، وموقف الغرب من الإسلام: رؤية معاصرة، والخطر الإسلامي بين الحقيقة والوهم، والموقف الإسلامي من الغرب، والإسلام والغرب: رؤية مستقبلية، وموقف الإسلام من الأديان والحضارات الأخرى، والتجربة السعودية في خدمة الإسلام في الغرب ومستقبل العلاقة بين الإسلام والغرب. وواصل المهرجان نهجه في طرح هذه القضايا في الأعوام التي تليها، حيث وسّع دائرة الطرح والمعالجة لأبرز قضايا الإسلام متصلاً بواقع العالم العربي والإسلامي؛ فيكون بذلك احتفاءً بالهُويّة العربية ومكوناتها الدينية والثقافية والاجتماعية.
إنه من البديهي أن يتحول مهرجان الجنادريّة في غضون خمس عشرة سنة مع هذه التوجهات إلى مهرجان عالمي في طرحه وتطلعاته وقبل كل ذلك في رسالته وأهدافه، فهو مهرجان يجسّد معنى الاحتفاء بهُويتنا، ويرسم ملامح الاعتزاز بها، ويرسّخ في الأذهان ثقافة التواصل الإنساني بصوره المختلفة.
كاتبة وباحثة مسؤولة المركز الإعلامي للفعاليات الثقافية النسائية لمهرجان الجنادرية 1431هـ
www.almubaddal.com