«البيروقراطية».. لم يأخذ مصطلح إداري حقه من النقد.. كما أخذ هذا المصطلح من نقد وتحليل، بل وإلصاق التهم ظلماً وعدواناً، حتى إنني عملت مسحاً سريعاً قبل كتابة هذا المقال حول هذا المفهوم، فوجدت أن أغلب الآراء حوله سلبية، فالبعض نعتها بالتعقيد، والجمود، والروتين، والبعض بالفساد الإداري، والبعض الآخر بالمحسوبية، والاستخدام السيئ للسلطة، والسرية، وإخفاء المعلومات وغيرها، وفي المقابل هناك القليل من وقف محايداً أمام هذا المفهوم، إذاً ما هو هذا المفهوم، وما هو تعريفه بمفهوم مؤسسيه، في ذلك الوقت والزمان، في العشرينيات من القرن العشرين، عندها نستطيع أن نحكم عليها بالسلبية أو الإيجابية أو بكليهما معاً.
البيروقراطية كما يصفها الأب الروحي لها، عالِم الاجتماع الألماني ماكس فيبر بأنها تلك المنظمة الواسعة الكبيرة التي تعتمد في إدارتها على الرشد والعقلانية في إصدار القرارات، بعيداً عن التأثيرات والعوامل الشخصية، بالإضافة إلى اعتمادها على التقسيم الدقيق للعمل، والتخصيص، وهرمية السلطة، وعلى لوائح وتعليمات وقوانين رسمية تنظم العمل وتنظم العلاقات بين العاملين، والتوظيف على أساس القدرات الفنية والمهارات اللازمة.
فمن وصف ماكس فيبر، نجد أن البيروقراطية تقضي على المحسوبية والتأثيرات الشخصية على سير العمل، وتساهم في إنجاز العمل بالطرق والسبل المثلى، بل إنك تجد أنها تحمل في الكثير من خصائصها أساسيات المبادئ الإدارية التي جاء بها التاريخ الإسلامي، فعندما تستعرض الجوانب الإدارية عند الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم تجد ذلك، فهرمية السلطة، نجدها في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمِّروا أحدهم»، ومبدأ الاختيار على أساس الجدارة والمهارات، والقضاء على المحسوبية وتأثير العوامل الشخصية، نجده في قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «من ولي من أمر المسلمين شيئاً، فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين»، ومبدأ التخصيص نجده في قول الخليفة عمر رضي الله عنه: «من أراد أن يسأل عن القرآن، فليأت أبي بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض، فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه، فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني فإن الله جعلني خازناً وقاسماً»،.. وغيره الكثير، فنحن لسنا بصدد أسلمة البيروقراطية، أو الدفاع عنها، ولكن لإيضاح بعض الجوانب الإيجابية فيها، والتي غابت عن الكثير.
بالإضافة إلى أن الكثير من مفكري وعلماء الإدارة وقعوا من حيث يعلمون أو لا يعلمون في خطأ كبير، وذلك عند تحليل وتقييم البيروقراطية بالمعايير الحالية، فمن العدل والإنصاف تقييم وتحليل مفهوم البيروقراطية وتلك التجربة من خلال الانتقال إلى ذلك الزمان والمكان وإيجاد تلك المعايير لاستخدامها في التقييم والتحليل.. ومن ثم الحكم عليها.. فعلى سبيل المثال نجد المفكر الأمريكي وارن بنيس الذي قال عن البيروقراطية سنة 1966م تقريباً: «بأنها خطيئة يجب سحقها»، وقال عنها المفكر الصيني ماو تسي تونغ: «إن هذا الشر العظيم (البيروقراطية) يجب رميه في البالوعة»، فهذه باعتقادي أحكام قاسية على تجربة تُعد في وقتها رائدة ونقلة كبيرة في علم الإدارة.
وفي الجانب الآخر، هناك من دافع عنها، كشارلس بيرو الذي وصف البيروقراطية بكبش الفداء لكثير من سلوك العاملين وسوء استخدام السلطة، بل قال إن الكثير من النقد الموجه للبيروقراطية كالجمود والروتين هي لمنظمات لم تتبقرط بعد.. وهناك من أدخل عليها بعض التعديلات كتفويض السلطة، وتعديل على الرقابة لتكون أكثر ملاءمة، وتتفادى بعض النتائج غير المرغوبة كالمفكر الأمريكي ميرتون وسلزنيك، وغيرهما.
أخيراً، ليس معنى هذا أن البيروقراطية تنظيم مثالي وإيجابي ويجب الأخذ به، وفي نفس الوقت ليس كل ما اتهمت به من فساد، ومحسوبية، وتعقيد، وسوء استخدام السلطة صحيح، فالبيروقراطية مدخل تنظيمي ظل يعمل جيداً في غالبية المنظمات إلى ما قبل عشرات السنين، ومع تغير الزمان والمكان ظهرت المشاكل كنتيجة طبيعية لتك التغيرات، ولكن يجب الوقوف أمام البيروقراطية، والنظر اليها بنظرة ثاقبة ناقدة تستحضر جميع الجوانب، والأبعاد المختلفة.
alaidda@hotmail.com