شبَّ حريق في أحد الأحياء الراقية في عاصمة عربية.. وبينما كان رجال الإطفاء يقومون بواجبهم لإخماد النيران المتأججة في أحد الأدوار السفلية بالمبنى، إذ امتدت ألسنة اللهب الهائلة للأدوار العليا، فسارع رجال الإطفاء لتلك الأدوار.
وعند الدور الثالث وفي إحدى شققه طرقوا الباب.. ثم طرقوه.. ولكن بلا مجيب.. فاقتحموا المسكن اقتحاماً لإنقاذ من فيه. وإذ بلغوا غرفة النوم تسمروا جميعاً من الذعر..!! فقد فوجئو جميعاً بهيكل عظمي مسجي على السرير!؟؟
وكشف الطبيب الشرعي فيما بعد أن الهيكل العظمي لسيدة في العقد السابع من عمرها، وأنها قد توفيت.. - وهنا المفاجأة المحزنة - منذ ثلاث سنوات!
ماتت المرأة وتآكلت وانطمست معالمها على مهل في مرثية مجتمعية فريدة تستعصي قسوتها على التحديد.
فكيف أمكن أن يتحول بيت لقبر في مدينة عصرية مزدحمة على مدار سنين ثلاث دون أن يدرك ذلك أحد.
كم أجهدتني تلك السطور الأليمة بعنوانها وتفاصيلها التي رواها النبأ المفجع الذي تصدر الصفحة الأولى من صحيفتين عربيتين.
وكم أشحت بوجهي ساهماً والقلب يشتد وجيبه كلما استعادت ذاكرتي النبأ.. وهل يمكن حقاً لأحد منا أن يتخيل حدوثه واستمراره دون أن ينوء به.
أخبر هو في سطور أم تبليغ قاس منذر بموت خلية مهمة في الجسدية الواحدة!؟
أشهد أنه في زحمة الحياة ونشوتها ومشاغلها اليومية تطارد قوة التأمل فينا قد يشق على الواحد منا -وهو محاط بالأبناء والأقارب والصحاب- أن يتخيل حدوث مثل هذه «الوحدة» لنفسه خاصة بعد توفير وسائل الاتصالات الحديثة واستخدامها في التهاني وغيرها عوضاً عن اللقاء الشخصي.
كما لا أظن كائناً بشرياً بالغاً ما بلغ من «عنفوان القوة» و»الباب» و»الغنى» و»الصحة» لا تمر به لحظات يتصور نفسه خاضعاً للرسم البياني لمنحنى القوة {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ} (68) سورة يس.
وإذن فالقضية قضية مشتركة تمس حياتنا وحياة من حولنا من جميع الجوانب. فمن منا استلم صكاً بضمان نوعية معيشته القادمة ومرضه وصحته وغناه وفقره.. إلى نهاية عناصر القوة.. انتهاء بالحياة نفسها.
وفي وهج الحريق المعنوي بعد لهيب الحريق المادي الذي كشف «المرثية المجتمعية»..
أتنسم أصداء الترنيمة «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم».. فأقول: متى؟ وكيف؟ ولماذا لا نؤسس أولى خطواتنا في التربية عليها؟؟
تتردد الترنيمة حتى أنها تثير الخجل والحيرة دفعة واحدة.
وحتى ينكر الإنسان نفسه أمام نفسه، إذ يتصور أبعاد المسؤولية الإسلامية الإنسانية المشتركة -حين تصدق- عن «عالم الغير» أو ذلك «الآخر» في مجتمعاتنا، ألا ترانا حين يمر بعضنا ببعض في طريق أول عمل أو جلسة فلا تكاد تحس نبض أخوية الانتماء للأصل الواحد وحنانه ومودته.
ولطف الجسدية الواحدة.. وندى الرحماء بينهم..
أحقاً يمكن أن تمضي ثلاث سنوات.. ولا أحد.. يدق باب هذه السيدة..
لا أحد يدق هذا الباب؟ لا أحد يستفسر؟ لا أحد يسأل؟
أين الأبناء؟ والأحفاد؟
أين الأقارب وذوو الأرحام؟
أين الجيرة والجيران؟
أين الإنسانية؟ أين الإنسان؟
لا أحد يمشي ليلاً أو نهاراً يتسمع صوت باك أو أنات كهل أو مريض؟
فهل في الأمر قضية؟؟؟
قد يرى البعض أن ذلك مجرد «حادث فردي» شاذ لا ينبغي ولا يجوز أن يقاس عليه..
وقد يرى البعض الآخر أن ذلك «نذير» وتعبير عن خلل جسيم في جسدية المجتمع وروحه.
وأعود لأقول «إن الداعي لذكر بعض العلاقات التي بليت وكشفها هذا الحادث الجلل الذي ينبش علاقاتنا الأسرية بل كل علاقاتنا المجتمعية ويطرحها للنقاش.
إنه لا ينبغي لأم أن تموت في دارها فتتحول الدار بأكملها لقبر غير كريم على مدى ثلاث سنين.. نكتشفها فيه هيكلاً عظمياً.. وإثر اندلاع حريق..
وإلا فلا مرحباً بالعمائر إن متنا داخلها دون أن يدركنا أو يحس بنا أحد في «ظلام الوحدة البهيم». ومرحباً بالخيمة تتحلق حولها القلوب من كل جانب.
هذا.. أو نسكن العمائر إن شئنا شريطة أن نعمرها حقاً كبشر ودون أن تسقط منا فضائل الخيمة العريقة بأصولها الرفيعة.
فكأنما ذلك الحدث قد صيغ صياغة قدرية محكمة ليقدم لنا عظة عصرية غير مسبوقة! أو يمثل إنذاراً فريداً بوجوب دفن ما بلي من أنسجة علاقاتنا اليومية.. من ذلك «الموت اليومي» للعلاقات والمحبة الحقيقية،.. الموت اليومي للعلاقات والمحبة الحقيقية -وضعوا تحتها خطاً- ليست بالأمر الهين.. هذا إذا أردنا أن يبعث مجتمعنا على نهج متجدد أصيل عمر ديارنا بالمحبة والرقة والتلطف والتواد والتراحم زمناً رفيعاً رائعاً.. فكيف تكون حديقة بلا بلابل تصدح فيها هذه الشمائل اللطيفة تعطي للحياة معناها البديع؟
هذا وأحسب أن هذا الخبر لو كان مقدمة «لفيلم» مأساوي أو مسلسل تلفازي يقدم لنا وللناس لاحتج عليه الناقدون وسخط عليه الساخطون، ولأشبعوه رجماً لبشاعته وقسوته وإثارته للسوداوية والبؤس في حياة الناس.,. ولقيل ما قيل فيما ينبغي وما لا ينبغي أن يعرض على الناس في أجهزة الإعلام.. ولعل في هذا اعتذاراً للأدباء الذين يتمثلون الواقع بحساسية فائقة فيكتبون لنا ما يكتبون.. فنظنهم مبالغين مغالين.
ولكن ماذا نفعل والخبر حقيقة منشورة بكل عمقها وأبعادها وتلوثها.
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.