شهر «آذار» هو شهر ثقافي بامتياز، ومناسباته الجميلة تبرر الاحتفاء به، ولعله - فوق هذا - شاهد على التغيير المتسارع الذي تشهده ساحات السجال بين المختلفين، وبينما كان معرض الكتاب - وهو الأبرز - محلا للتجاذبات العقلية والعضلية في أعوامه الأولى مال الجو إلى الهدوء هذا العام، رغم أن الكتب هي الكتب، وإن كان النشاط المنبري خائفا ينتظر قرارات أكثر جرأة على طرح موضوعات ذات دلالات، واستضافة أسماء ذات حضور وإمكانات.
** اختلط الناس في المعرض كما يختلطون في الأسواق، وصلوا جماعة مثلما يفعلون في المساجد، وحضرت الهيئة بروح المبشر لا المنفر؛ فكان الجو باعثا على استشراف الجديد الثقافي بعيدا عن وصاية وغواية، وآمنا أكثر أن التغيير حتمي مهما حاول بعضنا تبطيئه، وسيبتسم أحفادنا حين يروى لهم أن معرض كتاب كان مثار اختلاف، كما نعجب حين نعرف أن الدراجة والراديو كانا بحاجة إلى ترخيص استعمال.
** الساعة تتعطل حين تفتقد الطاقة المحركة لها، لكن الزمن لا يتوقف ؛ فنضطر إلى إعادة مواءمة ساعاتنا للتوقيت الصحيح، وما مررنا به - خلال ثلاثين عاما مضت - لا يعدو ساعة جدار خربت ثم دارت؛ فاكتشفنا أن إيقافها عملية عبثية قادتنا إلى خسائر متراكمة، ونحاول الآن استبدال مكاسب بها.
** العقل والهدوء سيقوداننا إلى حراك منتج وتغيير متدرج؛ فمن المؤلم أن نغرق في اجتهادات لا تمس الأساسات ونغفل عن الطائفيين والجهويين والإقليميين الذين يعزفون أنغامهم السوداء على مدرج الوطن وباسم الوطن وناتجهم تجزئة بل تشظية.
** باتت ألقابهم العلمية ومدخلاتهم الأسلوبية واستشهاداتهم الانتقائية ممرا يعبر بهم إلى حيث يصدقهم بعض ويصفق لهم بعض آخر، رغم أن أهدافهم منحصرة في مكاسب آنية لقراهم أو قبائلهم، ومع أن معايير الوطنية لا تعرف غير الجدارة ولا تعترف بغير الولاء وليس فيها سوى حياة واحدة ومصير واحد.
** ذات صفاء أو ربما غفلة، كلفت إحدى الجهات في الرياض لجنة داخلية جديدة للتوظيف، شاء التراتب الوظيفي أن يكونوا من منطقة واحدة ؛ ومضت سنوات فإذا بالتكوين « الديموغرافي « لهذه الجهة يتحول بشكل حاد، وإذا أعضاء اللجنة الموقرة قد اعتنوا بدائرتهم الضيقة على حساب دوائر الوطن الواسعة ؛ ما اضطر المسؤول لتكوين لجنة أخرى تسعى لاستعادة التوازن.
** انشغلنا عن قضايا الوطن الواحد بتلاسن ومماحكات، واستطاع مؤدلجون أن يديروا الساحة بجدل استُنفرنا له، وتوجسنا من قشور لا تمس الجذور، وعزفنا عن قراءة الغد المتحد بذرات نفود عرعر وبحر جازان، واستغل ذلك جهويون، وكان يكفي أن يسعنا ما وسع أسلافنا في القرون الفاضلة من التباين، وأن نشير بل نشهر بكل إقليمي تحركه مصلحته المحدودة ؛ ممن وظف وصنف وعرف وأنكر وأدنى وأبعد وفق توقيت أهله وذويه.
** في المعرض الأخير استقامت الرؤية بين الرسميين (الثقافويين والهيئويين) فحمدنا الله، وظل الخارجون ينوحون أن خسروا موقعا بل مرتعا، وحين يتضافر الوطنيون سيجأر المأزومون بتشدد وتبدد ؛ فنحن، لا هم، من نؤمن ألا بديل للوطن.
* الأولويات تراتب لا تكاذب.
Ibrturkia@gmail.com