لا يمكن بأي حالٍ أن يُدرك تاريخ الإسلامي السياسي دون فحص المراحل ورصد التطورات حول مبادئ وأصول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإسلام، فالاختلاف لم يكن حول الأمر بالمعروف، ولكن كان وما زال في حدود وأحكام النهي عن المنكر، وقد حدث ذلك مبكراً في عهد الفتنة الأولى في صدر الإسلام وذلك عندما قرر فتية من المسلمين أن يحكموا على آخرين بالكفر لأنهم قتلوا مؤمنين عمداً، فكان عليهم حسب فهمهم أن ينهوا هؤلاء عن المنكر واستخدام اليد لردع المنكر حسب فهمهم الظاهر لنصوص القرآن الكريم والسنة، فكانت الفتنة التي أحدثت بين المسلمين الانشقاقات الكبرى، وما جاء على أثرها من تفعيل لرؤى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال تنظيم العمل الطوعي الاجتماعي أو المسلح ضد الممارسات الخاطئة..
في هذا الإطار تظهر أهمية الكتاب الذي كتبه الألماني مايكل كوك عن الأمر بالمعروف والنهي المنكر في الإسلام، والذي استهل كتابه المهم بقصة الصائغ أبو إسحاق إبراهيم بن ميمون، والذي دخل على أبي مسلم الخراساني وقال له (ما أجد شيئاً أقوم به لله تعالى أفضل من جهادك، فلأجهادنك بلساني، ليس لي قوة بيدي، لكن يراني الله وأنا أبغضك فيه) فقتله أبو مسلم..، فكان موقفه الديني والسياسي نابعاً من فهمه لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنها واجبة على كل مسلم، وكانت سبباً لقتله..، وإعلاناً عن فتنة النهي عن المنكر بين العامة..
أدى البعد السياسي في فهم هذه الفريضة إلى اضطرابات وفتن لا يمكن حصرها في هذا المقال، لكني أستطيع القول إن التاريخ الإسلامي تم بناؤه من خلال هذا المبدأ، فالخروج السياسي في التاريخ الإسلامي قام على مبدأ فريضة النهي عن المنكر على كل مسلم مكلف، فكان حديث (الساكت عن الحق شيطان أخرس) والذي ورد في مسند الإمام أحمد يحظى باهتمام الذي يرون في النهي عن المنكر فرض عين..، كما أوجب حديث (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده..) فرض النهي عن المنكر عند رؤية المسلم لمنكر..
كان موقف الإمام أحمد حنبل نقلة جديدة في مسألة إخراج السلطان من فرض النهي عن المنكر على المسلم، (فإن سيفه مسلول وعصاه)، كما حث مستشاره المروزي أحمد بن شيبويه على ألا يدخل على الخليفة وينهاه، (إن أخاف عليك إلا تقوم بذلك)، وكان ينهى عن الاحتساب العنيف ويأمر بالرفق، ولم يكن معارضاً نشيطاً للخلفاء، ولا مفرط الولاء لهم..
لكن أتباعه في بغداد اتخذوا مواقف جديدة، وكما وصفها غولدتسهير بتطور الجماعة من فرقة مستكينة إلى مناضلة، ويرتبط هذا الإسلوب أو التجديد بالداعية والخطيب البغدادي الشهير البربهاري (329هـ)، الذي كان يُحسب الخليفة له ولأتباعه حسابهم، وكان الفارق عن عصر ابن حنبل تطورهم في استخدام قوتهم في اتجاه قمع المبتدعة، وكسر دور اللهو والمجون، وكان النهي عن المنكر في هذه المرحلة كذلك يدخل في مهام العامة خارج محيط السلطة لتقويم انحرافات المجتمع..، وأكد عصر البربهاري الحنبلي مقولة أن النهي عن المنكر فريضة واجبة على كل مسلم مكلف إلا تجاه من خيف سيفه وعصاه، وأنها قد تكون باليد واللسان والقلب من دون السيف..
دخل النهي عن المنكر في دمشق إلى عصر مختلف عن مرحلتي الحنابلة في بغداد، فشيخ الإسلام ابن تيمية كان من أبرز أقواله معالجته لقول الفريضة الواجبة على كل مسلم عندما رأى إن فعلها البعض سقطت عن الآخرين أي أنها أقرب لفرض الكفاية، كذلك عندما ادخل القاعدة العامة التي تقضي في حالة اقتران المصالح والمفاسد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأن ينظر إلى الأرجح (الأمر بالمعروف.. ص20)، وهي نزعة أقرب إلى النفعية كما عبر عنها المؤلف في كتابه، كذلك تجاوز ابن تيمية تحفظ أحمد ابن حنبل على التعاون مع السلطة السياسية، عندما أكد دور السلطان في الاضطلاع بمهمة الأمر والنهي..
يدخل مفهوم النهي عن المنكر أيضاً عند الفرق الأخرى إلى أبعاد أكثر تشدداً ضد المجتمع والسلطة، ونستطيع القول في العصر الحاضر أن المسلم لا يزال يعيش في أزمة متضاربة من الأقوال المأثورة، والتي كانت وما زالت مضرباً للمثل في تعدد الأقوال وأحياناً في تضادها، وهو ربما أحد أسباب أحوالنا المضطربة في العالم الإسلامي، ويأتي غياب منهج التطوير كأحد أهم أسباب الفوضى غير الخلاقة، ولا أجد سبيلاً أفضل للخروج من فتنة النهي عن المنكر إلا بتطوير آليات المجتمع المدني الحديث.