لفت نظري قبل فترة عنوان بارز على غلاف لإحدى المجلات جاء فيه (الفن النسائي قادم). وكأننا في معركة تشكِّل المرأة أحد أطرافها، بل من الممكن أن يحمل هذا العنوان معنى أكبر وأبعد، القصد منه أن المرأة التشكيلية مغيبة وحان الوقت لتأخذ مكانها، ومع ذلك لم أُعر هذا العنوان اهتماما؛ كونه وضع كطعم لقراءة الموضوع الذي لم يكن مستحقا القراءة، وجاء العنوان ليحيله إلى مادة دسمة لتسويق المجلة في محيطنا الذي تؤثر فيه مثل هذه الأساليب التي يقصد منها إقناع القارئ. هذا الاستغلال المعتاد سابقا عن المرأة السعودية بإضفاء الصور المظلمة والاتهامات شكَّل علامات استفهام عن حقيقتها؛ فأجاب عليها الواقع بالأفعال والمواقف والحضور الدولي ومنافسة الآخرين علما وخلقا وتميزا.
أعود إلى العنوان الذي أعادني إلى ظاهرة (التفكيك) - إن صح التعبير - التي يسعى فيها البعض إلى فصل إبداع المرأة عن إبداع الرجل، وكأن إبداع المرأة يتم إنتاجه في معزل عن إبداع الرجل وأنه آت من كوكب ومدار لا يلتقيان فيه. ومن المؤسف أن نجد هذا التمييز بين الإبداعين في محيطنا التشكيلي وتقسيمه إلى فن نسائي وآخر رجالي، كأن يقال معرض نسائي وفن نسائي، مع ما تبع ذلك من تأليف كتب وكتابة مقالات وإلقاء محاضرات تعزف على هذا الوتر. تذكرت هذا العنوان وذلك الخبر مع أنه نشر قبل عامين وأنا أتجول في معرض الرياض وقبل ذلك القاهرة الدوليين للكتاب. كان الخبر يتحدث بإيجاز عن معرض أُقيم في إحدى القاعات بدولة شقيقة لمجموعة من التشكيليات السعوديات، وكأن المحرر وجد في هذا المعرض اكتشافا جديدا حينما أشار في نهاية الخبر إلى أن المعرض كان مثار دهشة الزوار الذين شاهدوه لعدم معرفتهم أن بالمملكة حركة تشكيلية (نسائية)، وأنهم في تلك الدولة الشقيقة يجهلون الكثير عن الفن السعودي؛ ما يدل على قصر نظر الأحبة هناك، في وقت أصبحت فيه الأعمال الفنية السعودية رجالا ونساء تملأ مواقع الإنترنت. أعود للتسمية وعلاقتها بمعرضي الكتاب اللذين ذابت فيهما تلك التسميات، وأصبحا نهرا يجمع كل الروافد، تلتقي فيه الشعاب والأودية دون تصنيف أو تفريق أو فصل بين التوأمة الإبداعية؛ فقد ازدانت دور النشر فيهما بعناوين الكتب لأسماء نسائية ورجالية، ومع ذلك لم أجد دارا كتبت لافتة تعلن فيها وجود إصدارات نسائية وأخرى رجالية كما هي محال الملابس والإكسسوارات؛ ما يدل على أن هذا التمازج في الإبداع لا يمكن فصلة أو تجزئته ولا تصنيفه، ولكن يمكن الإشارة إليه بالمسمى الحقيقي المطابق لحق كل منهم كأن نقول المرأة التشكيلية أو إبداع المرأة التشكيلية عوضا عن عبارة الفن التشكيلي النسائي، وكأن للتشكيليات رموز وعناصر وأدوات وفكر مختلف لا علاقة له بالمحيط والثقافة والقيم والمبادئ التي ينهل منها التشكيلي الرجل.
وإذا كنت أطرح هذا الموضع من جانب الفن التشكيلي فقد طرحه الكثير من النقاد والكُتاب والكاتبات في مجال الثقافة عامة، وتساءل الجميع: ما الذي يمكن أن يعتبر دليلا قاطعا على هذا التصنيف؟ ونحن أيضا نعيد الطرح لمن يحاول إثبات تلك الصفة أو التفرقة في الساحة التشكيلية: هل أعمال المرأة التشكيلية بأي من فروع هذا الفن أكثر رقة؟ وهل تعتبر متجاوزة لحدودها الجسدية والذهنية لو تعاملت مع الحجر والتشكيل بالتحديد ورسم الجداريات ذات المساحات الكبيرة؟ وهل القول بأن هناك فنا نسائيا يقابله فن رجالي يعني التقليل من أهمية فن المرأة؟ وهل يعلو قدر العمل الفني إذا كان من إبداع رجل؟.. من المؤسف أن يجهل هذا التلاحم والتلاقح والإنساني أفراد يحملون درجة علمية يعتد بها، متناسين أو متجاهلين أن الإبداع التشكيلي الذي يحمل خواص فترته الزمنية وفكر عصره المساهم في الارتقاء بذائقة المجتمع عمل ونتاج إنساني لا فصل ولا تفريق فيه بين جنس وآخر؛ فالمرأة والرجل يلتقيان سواسية فكرا وعطاء وبناء سياسيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا، ولم نسمع يوما أن قيل السياسة النسائية أو الاقتصاد النسائي، مع أنني على استعداد للتراجع والاعتذار وقبول الرأي الآخر في حال إثبات الاختلاف بين الإبداعين بأن نشاهد أعمالا تشكيلية لا تتشابه أو تتوافق مع ما نراه من إبداع التشكيليين الرجال.
قد يجهل البعض ما كان وما قد يتبقى لبعض العقول الضعيفة من التشكيك في إبداع التشكيليات ووصم البعض منهن بالسرقة أو الاستعانة بآخرين حينما يرى أولئك المشككون تميزا في إبداعها، ولهذا وفي وجود هذا التصنيف قد يفهم ما تذهب إليه تلك الصفة التي منحت من البعض بالتفريق بين الجنسين، إنها تقليل من شأن عطاء المرأة، وهذا أمر مرفوض ويجب استئصاله لئلا يبقى في الذاكرة التشكيلية، وأن تكون المساحة أكبر، والمسمى أشمل: (التشكيليات والتشكيليون والفن واحد).
monif@hotmail.com