مَنْ ينكر وجود صدام الحضارات في عصرنا الحاضر كمن ينكر وجود الشمس ساطعة في كبد السماء، ولعل الحملات الإعلامية التي طالبت في التصدي للصدام بين الحضارات هي التي أوجدت ذريعةً لمن يدَّعي أن لا وجود لهذا الصدام.
وكان الصدام في القرن الماضي- العشرين- بين الحضارة الغربية والحضارة الروسية وعقيدتها الشيوعية، واستطاعت الحضارة الغربية بوسائلها المختلفة إسقاط الحضارة الروسية وعلى أيدي بعض زعمائها. وبعد تفكيك الاتحاد السوفيتي إلى دول فقدت ولاءها الديني والحضاري بدأت الدول الغربية باستقطاب هذه الدول إلى فلكها، وسارعت تلك الدول الواحدة تلو الأخرى في الانضمام إلى المعسكر الغربي حتى أنه تجري الآن محاولة ضم الدولة الأم روسيا إلى المعسكر الغربي عسكرياً وثقافياً وتحت شروط تضعها الدول الغربية عليها. وبعد أن انهزمت الحضارة الروسية أو كادت أن تموت في نهاية القرن الماضي اتجه ربان الحضارة الغربية إلى الحضارة الإسلامية، ففي عام 1992م ألف الباحث والمفكر الغربي «فرانسيس فوكوياما» كتابه المعروف ب»نهاية التاريخ والإنسان الأخير». وأثار هذا الكتاب ردود فعل عالمية وجدلية من مختلف دول العالم، إذ يرى فوكومايا أنه بانهيار القطبية الثنائية وانهيار الاتحاد السوفيتي كإطار للشيوعية أدى ذلك إلى إنفراد الرأسمالية والليبرالية بالعالم وهو ما يمثل نهاية التاريخ وأن البشرية يجب أن لا تفكر في غير النموذج الرأسمالي حلاً لمشكلاتها، فالبشرية وصلت إلى نهاية إبداعها الفكري ولا يوجد أمامها سوى النموذج الرأسمالي. ويقول فوكوياما «النظام الرأسمالي بانتصاراته المتتالية على الأيديولوجيات الأخرى.. هو نظام الحكم الأمثل.. الوصول إلى هذا النظام هو نهاية التاريخ». ومن عباراته «إن انتصار الغرب أو الفكرة الغربية لهو دليل قبل كل شيء على استنزاف وفشل البدائل التي طرحت أمام الليبرالية الغربية». ولعل مفكري ومؤدلجي الحضارة الغربية لم يجدوا في كتاب فوكوياما في نظريته عن نهاية العالم الفكرة المتكاملة لتصور المستقبل للعالم أجمع وبدأت الأطروحات تتوالى وكان أهمها ما كتبه «صموئيل هانتجتون» الأستاذ في جامعة هارفارد ونشره عام 1993م في مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية، ثم تحول المقال إلى كتاب عام 1996م بعنوان «صدام الحضارات إعادة صنع النظام العالمي». وجاء مصطلح صدام الحضارات مُغْلِقاً الأمل أمام البشرية حول إمكانية حلول السلام والأمن في العالم، ومؤكداً أن النظام الرأسمالي حسب الرؤية الغربية هو النظام النهائي للبشرية وبالتالي فإن الصراع الحضاري والثقافي لابد أن يستمر بين الغرب وبقية العالم. ويرى «هانتجتون» أن الصدام المقبل هو الصدام بين المسيحية والإسلام، فالحضارة الإسلامية ذات طبيعة دموية -كما يزعم- ولذلك فالإسلام أو المسلمون هم الأعداء الألداء للغرب. ومما ورد بكتابه: «أربعة عشر قرناً من التاريخ تقول إن العلاقات بين الإسلام والمسيحية كانت عاصفة غالباً»، ويقول (طالما أن الإسلام يظل كما هو الإسلام والغرب يظل كما هو الغرب فإن الصراع الأساسي بين الحضارتين الكبيرتين وأساليب كل منهما في الحياة سوف يستمر) ص433. ولعل أهم الأدوات القوية لإنفاذ صِدَامَ الحضارة الغربية بالحضارة الإسلامية هو ما يطلق عليه ب»العولمة». وعلى الرغم من أنه لا يوجد اتفاق في تحديد مفهوم العولمة، إذ يرى البعض أنه في طور التبلور والتكوين وليس هناك تعريف يشمل تفاصيل هذا المصطلح، إلا أن عناصر ظاهرة العولمة تتبلور في مجالات متكاملة هي:
1 - العولمة الاقتصادية، وتعني (الاقتصاديات العالمية المفتوحة على بعضها، وهي أيدولوجياً مفاهيم الليبرالية الجديدة التي تدعو إلى تعميم الاقتصاد والتبادل الحر كنموذج مرجعي، وإلى قيم المنافسة والإنتاجية، وهي تعد العالم بالرفاة). ويشهد نظام العولمة الاقتصادية الذي تنفذه منظمة التجارة الدولية تطوراً آخر، وهو اقتراح الاتفاقية متعددة الجهات حول الاستثمار، حيث تجري المحاولات لبدء مفاوضات في منظمة التجارة العالمية حول اتفاقية استثمار دولي. ويتطلب الاتفاق الأصلي للاتفاقية المتعددة الجهات حول الاستثمار، قيام الدول الموقعة على المعاهدة بالتخلص من العوائق التي تحول دون دخول الشركات الأجنبية واشتغالها في كافة القطاعات تقريباً، الأمر الذي يعطيها الملكية العادلة بالكامل، ومعاملة المستثمرين الأجانب، على الأقل مثل حقوق المستثمرين والشركات المحلية.
2- العولمة السياسية، وتعني (الدعوة إلى اعتماد الديمقراطية الغربية والليبرالية السياسية وحقوق الإنسان والحريات الفردية، وهي إعلان لنهاية سيادة الدولة ونهاية الحدود ولتكامل حقل الجغرافية السياسية).
3- العولمة الثقافية، وتعني (توحيد القيم حول المرأة والأسرة، وحول الرغبة والحاجة وأنماط الاستهلاك في الذوق والمأكل والملبس، وإنهاء توحيد طريقة التفكير والنظر إلى الذات وإلى الآخر وإلى القيم وكل ما يعبر عنه السلوك).
4- العولمة القانونية، وتعني (شمولية القواعد القانونية المنظمة للعلاقات التجارية الدولية سواء من الناحية الموضوعية أم من الناحية الجغرافية).
5- العولمة الموضوعية، وتعني (اتساع نطاق تنظيم العلاقات التجارية الدولية ليشمل معظم ميادين الحياة التجارية الدولية، وفقاً لما تحدده الاتفاقيات الدولية).
6- العولمة الجغرافية، وتعني (اتساع رقعة الدول المشاركة المنظمة العالمية للتجارة، والتي سوف تلتزم بتعليمها).
ومن التعريفات المشهورة للعولمة أنها «فرض العلمنة»، إذ يريد الغرب أن يفرض نظام الحياة العلمانية على العالم والعولمة وفقاً لتعريف المفكر الفرنسي المسلم (جارودي)، هي (الوجه الآخر للهيمنة) أو (هي التسمية البديلة للهيمنة الشاملة على العالم).
ويعرف ريتشارد هبوت في (كتابه العولمة والأقلمة) العولمة بأنها (ما اعتدنا أن نطلق عليه في العالم الثالث ولعدة قرون اسم الاستعمار). ويعرف (ووترز) العولمة بأنها: (عملية اجتماعية يتم من خلالها تقليص القيود التي تفرضها الجغرافيا على الأنظمة الثقافية والاجتماعية، كما يصبح الأفراد بدرجة متزايدة على وعي بتراجع هذه القيود).
ولإنفاذ الهيمنة والحضارة الغربية على العالم أُوجِدتْ منظمة التجارة العالمية في يناير 1995م وهي الوريث الشرعي (للجات)، التي تبنت مبادئها الهادفة في الأساس إلى التحرير الكامل من شتى القيود وتشترط على الدول التي تطلب الانضمام إلى هذه الاتفاقية أن تلتزم بما يلي:
1- أن تحول القطاع العام إلى القطاع الخاص (الخصخصة).
2- عدم تدخل الدولة في تنظيم الأنشطة الاقتصادية، بل يجب إطلاق آليات السوق وحرية التجارة الخارجية.
5- انسحاب الدولة من الميدان الاجتماعي وتقليص الحماية، وإلغاء مؤسساتها.
4- دور الحكومة دور محوري يتمثل برفع حماس الناس لتحمل مسئولياتهم بالانفتاح وخلق شراكات اقتصادية.
وهناك أيضاً عدد من المؤسسات الدولية المعنية بتنفيذ سياسات العولمة، وهي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الذي يشترط على الدول النامية التي تطلب مساعدة أو قروضاً مالية أو إعادة جدولة ديونها أن تلتزم بعدد من الشروط ومنها:
1- أن تنتهج الأسلوب الديمقراطي الغربي في الحكم.
2- أن تحمي حقوق الإنسان حسب المفهوم الغربي.
3- أن تفسح المجال لمواطنيها لاسيما - المرأة - للمشاركة الفاعلة في الحياة السياسية والاقتصادية.
4- إنفاذ الشروط المتمثلة بالتحرر والخصخصة ورفع القيود والقوانين المعيقة، وانسحاب الدولة من الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية.
بالإضافة إلى منظمات دولية مؤثرة أخرى وبصفة خاصة هيئة الأمم المتحدة ووكالاتها وما تطرحه من معاهدات واتفاقيات وما تقيمه من مؤتمرات دولية، كلها تصب في تكريس المفهوم الغربي لمناشط الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في سبيل خلق دولة كونية واحدة تسودها مُثُل ونظم الحضارة الغربية.
dr-a-shagha@hotmail.com