اليوم، وبعد قرابة ثلث قرن مرت على محاولاتي الأولى في الكتابة الصحفية، وهي مسافة زمنية هائلة بمقاييس التطور الحديث، أجد أن الكتابات التنويرية المحلية ما زالت تدور حول نفس الهموم القديمة، وتحاول إخراج العربة الوطنية من نفس الرمال القديمة، لكن الجديد هذه المرة هو أن العربة بدأت تتحرك فعلاً إلى الأمام؛ لهذا السبب، ولفرحتي بأن العربة المنغرسة في رمال الصحوة الماضوية بدأت تتحرك إلى الأمام، قررت أن أعود إلى الكتابة من جديد.
|
على نهج هذا القائد المصلح الكبير الملك عبدالله بن عبدالعزيز - أطال الله في عمره وسدد خطاه -، واستلهاماً لتوجهاته الحضارية المتآخية مع الحضارات البشرية الأخرى، أصبحت الكتابة التنويرية واجباً وطنياً وأخلاقياً كمساهمة متواضعة في مشروع التحديث الوطني الحضاري الجديد.
|
كنت أكتب قبل أكثر من ثلث قرن في الصحافة المحلية ثم توقفت، أوقفني الإحباط حين سيطرت على الحياة بكل صورها وشؤونها شوفينية الجهل، وحجبت الخفافيش أنوار العقل والأفكار.
|
في البدايات البعيدة كتبت في جريدة (الجزيرة) بالعدد 3559 في 10 شعبان 1402هـ على هامش حروب المنطقة تحت عنوان (هذه حرب حبلى بحروب)، وكنت أستلهم معلقة حكيم العرب زهير بن أبي سلمى حين قال:
|
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ |
وما هو عنها بالحديث المرجَّم |
|
فتعرككم عرك الرحى بثفالها |
وتلقح كشافاً ثم تحمل فتتئم |
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم |
كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم |
وبالفعل صدقت النبوءة؛ فقد أنتجت لنا تلك الحروب في الخليج وأفغانستان حروباً مستمرة، وغلمان شؤم أذاقونا أصناف العذاب والإرهاب، وعزلونا عن البشرية أكثر من ثلث قرن، وما زالوا ناشطين حتى اليوم بين ظهرانينا.
|
في تلك الأيام بدأ التفاؤل بالمستقبل ينطفئ بداخلي، ويحل محله ضغط الكآبة والتشاؤم من مقبلات الليالي والأيام، لكنني استمررت في الكتابة لبعض الوقت؛ لتنفيس الكرب، ولمحاولة التحذير من الخطر القادم على قدر الحال والمجال، ولاحقاً بدأت محاولة الرصد للمظاهر السلبية في المجتمع ولإفرازات الطفرة (التي غمرتنا كموجة تسونامي) في زاوية أسبوعية في مجلة اليمامة تحت اسم (أفكار مبحوحة)، ولم تكن الظروف آنذاك تسمح بأفكار تقال بالفم المليان؛ فاكتفيت بالأفكار المبحوحة كأضعف الإيمان.
|
كتبت تحت عنوان (اخرس) عن قدرة المجتمع المنقاد للمتسلطين الجهلة على إسكات المفكرين ونبذهم، وتحت عنوان (ليس في الإمكان أبدع مما كان) عن الجمود في نفس الوضع والمكان، وكتبت مقارناً بين جمع التبرعات للمشروع الجهادي في أفغانستان وما يبذل لتحرير فلسطين، وتحت عنوان (ليلة القبض على الثقافة) كتبت عن ضحالة ما تقدمه وسائل التثقيف المحلية المصرح لها بممارسة التثقيف، وتحت عنوان (طب عصر الظلمات) عن الطب الشعبي الذي ليس له علاقة بالطب وإنما بالشعوذة والدجل. كتبت أيضاً في شؤون التعليم تحت عنوان (الحفظ عن ظهر قلب والحمار الذكي)، وتحت عنوان (نمطية التعليم تعليم النمطية) محذراً من دور التعليم النمطي الكسيح ومناهجه في تكريس التجهيل وإبقاء التبعية الحضارية في كل شؤون حياتنا مرتهنة للأمم الأخرى. على هذا المنوال كنت أكتب حتى اقتنعت بأن الكتابة أصبحت سباحة ضد التيار الذي كان يسير آنذاك في الاتجاه المعاكس؛ أي نحو الماضي وليس نحو المستقبل، وأن الكاتب التنويري إنما ينفخ في قربة مقطوعة.
|
لكن دوام الحال من المحال، والله يجعل من بعد عسر يسراً، وها هي العربة بدأت تجرب أولى دوراتها إلى الأمام في المسيرة البشرية الحضارية الكبرى، ويحق لي أن يهزني الشوق إلى الكتابة مجدداً عندما تلوح النجوم في الأفق البعيد.
|
أما لماذا الكتابة في جريدة (الجزيرة) بالذات؛ فذلك لأن جريدة (الجزيرة) ترتكز على تراث مؤسساتي تنويري عريق، لكن بريقها القديم فقد شيئاً من لمعانه، بحسب اعتقادي، و(الجزيرة) كانت ولا تزال عموداً ضخماً في الصحافة المحلية من ناحية التاريخ وأعداد القراء في الوقت الحاضر، لكن صحفاً محلية أخرى بدأت تحتك بها وتنافسها وتعايرها بكثرة في كتابها، ثم إن جريدة (الجزيرة) عزيزة على نفسي؛ لأنها نشرت أولى محاولاتي الكتابية..
|
لذلك كله أستأنف الكتابة، راجياً دعواتكم لي بالتوفيق.
|
الرياض |
|