لا يأمن العجز والتقصير مادحه |
ولا يخاف على الإطناب تكذيبا |
كم هو جميل أن يذكر الإنسان بعد رحيله عن الدنيا، بعدّ شطر من مواقفه ومآثره الحسان، وتكرار ذكره، وذكر المماثلين له في المجالس الخاصة والعامة إذا جاء المجال في ذكر الكرماء والعلماء،
|
ومن لهم دور مشرف في العطاء والإحسان، ومن كان له تأثير في تبصير الناس بأمور دينهم وحل مشاكلهم وفض المنازعات، إن وجد شيء منها، سواء بالنصح والإرشاد، أو بالحكم الشرعي إذا كان الأمر يتعلق بالقضاء والمحاكم الشرعية التي يتجلى فيها العدل والإنصاف بين المتخاصمين مثلاً: وإصلاح ذات البين، بل وكل ما من شأنه إدخال السرور والألفة والتحاب في الله - جلت قدرته -؛ لأن التنوير والتذكير بمآثر أولئك الذين لهم دور مشرق في الحياة يكون بمثابة إيقاظ مشاعر ذوي الهمم العالية ليحذوا حذو من سبقهم، وليواكبوهم في سائر المجالات الخيرية، سواء في الميادين التجارية والبذل بسخاء في أوجه البر ورعاية الضعفة والمحتاجين لمد يد العون لهم، أو في الارتشاف من رحيق العلوم على أيدي المشايخ، والتشجيع على نشره ليستفاد منه، وهكذا طريق الفضلاء، ليبقى ذكرهم خالداً وساكناً في صدور الأجيال جيلاً بعد جيل..، ومن أولئك الرجال علم بارز من فضلاء العلماء والقضاة الذين تعاقبوا القضاء في حريملاء بدءاً من الشيخ عبدالوهاب بن سليمان في عام 1139هـ في تلك العقود الفارطة، إنه الشيخ الفاضل عبدالرحمن بن سعد بن عبدالعزيز بن حسن الفضلي الذي سبق أن سعدت حريملاء بوجوده قاضياً لمدة عشرين عاماً منذ 1361هـ حتى 1381هـ إلى جانب جلوسه بجامع حريملاء لعدد كبير من الطلبة الذين تلقوا العلم على يديه في مادة التوحيد والحديث والفقه، وعلم العربية، وفي علم الفرائض؛ حفظاً وشرحاً، ولقد ولد الشيخ في عام 1325هـ في بلدة ملهم أحد بلدان الشعيب «محافظة حريملاء حالياً، ونشأ بها، وأخذ مبادئ القراءة والكتابة في الكتاب لحفظ القرآن الكريم مجوداً، وكانت ملامح الذكاء والفطنة تلوح على محياه، والحيوية تتموج في أعطافه، وقد عاش وترعرع في بيئة علم وكرم؛ فأبوه وجدُّه كلاهما عالمان كبيران؛ مما أثر في نفسه وتطلعه في طلب العلم والنهل من حياضه العذبة، ثم شرع في طلبه؛ فقرأ على علماء الشعيب، وكان من أشهر مشايخه: أبوه الشيخ سعد بن عبدالعزيز بن حسن، والشيخ فيصل بن عبدالعزيز المبارك، والشيخ إبراهيم بن سليمان الراشد قاضي حريملاء «آنذاك» ثم رحل إلى المجمعة؛ فقرأ على قاضيها الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العنقري؛ فطمع في التزود والتروي من رضاب العلوم فشخص إلى الرياض، وقرأ على أعيان العلماء فيها، ومن أشهرهم سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم وأخوه الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم، ولازمهما زمناً؛ حتى نهل من معين العلوم، وأصبح في مصاف العلماء الأجلاء.
|
بقدر الكد تكتسب المعالي |
ومن طلب العلا سهر الليالي |
ثم عينه الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - قاضياً بمدينة الزلفي بترشيح من الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية - آنذاك، وفي عام 1361هـ نقله إلى قضاء الشعيب والمحمل، ومقر قضائه في حريملاء، ومكث في قضائها عشرين عاماً، وكان موفقاً في أقضيته، وكثيراً ما يميل إلى الصلح بين الخصمين، وإذا اختلفا في ما يدعيان فيه مثل قسمة مجاري سيول نخيلهم ومزارعهم، أو في تحديد الأملاك المشتركة، وما أشبه ذلك، فإنه يذهب إلى تلك المواقع ليقف عليها بنفسه سراً أو جهراً، ثم يحكم بما يراه الأصوب، ويكون ذاك الحكم حاسماً ومرضياً لدى الطرفين في كثير من القضايا لسلامة صدورهم، واقتناعهم بحكمه - رحم الله الجميع -، وكان يوم الجمعة يخطب ارتجالاً بصوت مؤثر، ولا يزال ذاك الصوت الشجي يرن في أذني، وهو يقول: (الدنيا عرضٌ حاضرٌ يأكل منها البر والفاجر.. إلخ، والصغير لا ينسى؛ فهو خطيب ثبت الجنان - رحمه الله - وكان ذا صلة وطيدة مع والدي العالم الزاهد الشيخ عبدالرحمن بن محمد الخريف الذي يعتبر من علماء عصره؛ فيقضيان تلك السويعات المتكررة الجميلة المفيدة بين آونة وأخرى في نقاش، وتطرق إلى بعض مسائل الخلاف بين العلماء، فيحاولان التوفيق والجمع بين أطرافها واختيار الأصوب والأرجح بين الروايات، كما أنه يستشير والدنا في بعض القضايا التي يكون فيها إشكال عليه؛ فالوالد - رحمه الله - يتعامل معه كنظير له ويقول بتواضع: لعل الأصوب كذا..., فيفهم القاضي هذه الإيماءات فيعمل بها، وهذا شأن القضاة الورعين في التثبت قبل إصدار الأحكام، وفي عام 1381هـ نقل إلى القضاء في المحكمة الكبرى في الرياض، وكان يصلي إماماً في مسجد (الوسيطى) الواقع شرقي محلة دخنة في الرياض، وله فيه حلقات لتدريس بعض طلاب العلم، ويصلي يوم الجمعة إماماً وخطيباً في مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم أثناء غيابه، وقد توفي في 15-12-1391هـ؛ فعم حزنه أسرته وتلامذته ومحبيه، وكان - يرحمه الله - سمح المحيا طيب العشرة، حلو المفاكهة، جمَّ التواضع كريماً، وعطوفاً على المساكين، ومنزله لا يخلو من أمثالهم، يقدم لهم القهوة، وما تيسر من طعام، ويأكل معهم، ويداعبهم؛ لتذهب عنهم وحشة الهيبة؛ ليأنسوا في مكانه؛ فهو رجلٌ مهيب في مجلس القضاء لا تسمع الكلمة العوراء فيه، ليّن العريكة مع ضيوفه وجلسائه...., ومن الذكريات الجميلة تشريف الملك سعود بن عبدالعزيز - رحمه الله - في منزله المتواضع أثناء زيارته لأهالي حريملاء عام 1374هـ وتجاذب أطراف الأحاديث الودية بينهما, وهذا هو شأن ملوكنا الكرام بتقدير العلماء وزياراتهم في منازلهم:
|
وأحسن أخلاق الفتى وأجلها |
تواضعه للناس وهو رفيع |
ومن المواقف التي لا تخلو من طرافة أثناء بداية قيادة سيارته أن صادف أن تقابل مع سائق آخر داخل بلده بملهم في طريق ضيق لا يسع سوى سيارة واحدة؛ فأخذ السائق المقابل يوسع الشيخ صراخاً وشتماً؛ فما كان من الشيخ عبدالرحمن المعروف بالحلم وسعة البال إلا أن قال: يا هذا اقصر مَن شتمك أنا سائق قدام لا سائق خلف، فلما علم أنه القاضي خجل ثم رجع بسيارته إلى الخلف، متندماً ومعتذراً على ما تفوّه به نحوه..., وهذا يدل على حلم الشيخ وتواضعه، وهذه طرفة أخرى تدل على فطنة الشيخ ودرايته باختلاس بعض الجزارين من أطراف أعضاء وأجزاء الذبيحة دون أن يفطن الكثير من الزبائن لاختلاسهم لتلك (النتف من اللحم...!)؛ فذات يوم نزل ضيف على الشيخ عبدالرحمن - أبو عبدالعزيز -؛ فأمر جزاراً أن يذبح خروفًا لغداء الضيف، فقال له: أعطنا من لحم (الجلد... !) نُودّم به فطورنا، وفي نفس الوقت يشعر الجزار بطريقة لبقة أنه لا يخفى عليه اختلاس بعض الجزارين ووضع ما يسرق في ثنايا الجلد، ثم يذهب به إلى منزله..., فالشيخ - يرحمه الله - على جانب من الفطنة والدراية بأحوال الناس دقيقها وجليلها:
|
ليس الغبي بسيد في قومه |
لكن سيد قومه المتغابي |
وكان - رحمه الله - حريصاً على توطيد علاقته بالمعلمين والطلاب؛ فقد كان يدعو المعلمين بين فترة وأخرى إلى تناول الطعام في منزله،.. كما كان يحضر نادينا نادي معهد المعلمين بحريملاء باستمرار، والذي يقام في ليالي الجمع في الفترة من عام 1379هـ - 1381هـ، ويقوم بتشجيع وتوجيه الطلبة، مبيناً لهم أهمية المسرح المدرسي، وإلقاء الخطب من على منصته أمام الحضور والآباء؛ ففي ذلك تعويد على الخطابة والارتجال، وإبعاد شبح الهيبة وبناء الشخصية، مذكراً أنهم رجال المستقبل وعدة الوطن، وحاثاً على تقديم الجوائز الرمزية للمتفوقين، لعلمه أنها تقوي معنوية الطالب وتثير الحماس بين الطلاب؛ مما جعلهم يتدافعون ويتنافسون على ذاك المنبر المدرسي الذي خرج أفواجاً من الأدباء والخطباء في المساجد والمحافل..:
|
يتزين النادي بحسن حديثهم |
كتزين الهالات بالأقمار |
فسيرة الشيخ عبدالرحمن بن سعد معطرة بالثناء، وبالذكر الحسن؛ فمحبته ساكنة في صدور أهالي حريملاء وجميع محبيه، وسيظل ذكره غضاً جديداً إلى الأبد، تغمده الله بواسع رحمته، وأسكنه عالي الجنان، إنه سميع مجيب.
|
|