قد يصح القول الشائع أنه لا يمكن فرض الديموقراطية في المجتمعات العشائرية، وذلك لاختلاف مصادر السلطة عن مقومات المجتمع الرأسمالي والليبرالي، والذي تحكمه معايير تختلف تماماً عن مجتمع القبيلة، كذلك لا يمكن إغفال ما يحدث من متغيرات في المجتمعات العربية التي اتجهت نحو الاقتصاد الحر كمحور تدور حوله النشاطات والفعاليات الاجتماعية بمختلف مشاربها.
من خلال تنوع التطور الإنساني والمادي في المجتمعات العربية وإتجاهه نحو الرأسمالية والليبرالية، قد نستطيع القول أن وسيلة الديموقراطية كآلية قد بدأ الاهتمام بها بعد أن تم استدعاؤها تكراراً لتنظيم عمليات الانتخابات والاقتراع في كثير من الدول والمؤسسات والشركات والجمعيات، ويأتي استخدامها كحل مثالي لاختيار أعضاء مجلس إدارة المؤسسات والشركات والجمعيات، ويشترك هؤلاء في أنهم يمثلون مصالح فئات وجماعات في المجتمع.
قد نتساءل كثيراً عن سبب غزوها المجتمعات التقليدية، بالرغم من تعارضها التام مع التركيبة الاجتماعية للسلطة، فما يحدث هو في واقع الأمر خروج عن النظم التقليدية في المجتمع، وأكاد لا أجد إجابة مخالفة لما ذكرت أعلاه، فقد فرضت المتغيرات الاقتصادية والليبرالية واقعا جديدا، فعلى سبيل المثال: خرج القطاع الخاص من جلباب القطاع العام ليقوم بأدوار جديدة، وأدى دخول نظام الشراكة أو الشركة كجزء حيوي متطور خارج القطاع العام إلى استقلال بعض مراكز النفوذ، وكان التحدي أمام هذا الإنشقاق في البحث عن وسيلة لتنظيم عملية الشراكة المبنية على مصالح الأفراد، لذلك تم استدعاء الديموقراطية كآلية لتنظيم انتخابات مجالس الإدارة في الشركات والغرف التجارية.
أيضاً أدى دخول الجمعيات الخيرية والعلمية إلى ميدان الأنشطة الاجتماعية إلى استعمال نظام الانتخابات في اختيار أعضاء مجالسها الإدارية، فالعمل التطوعي لا يمكن فرضه من خلال قرار عام أيضاً، إذ يحتاج الأفراد المتطوعون إلى اعتراف اجتماعي بحقهم الذاتي في تنظيم خدماتهم الاجتماعية وإلى ممارسة الديموقراطية داخل المؤسسة التطوعية..
يدل ازدياد الاستعانة بالنظام اليوناني القديم على أنه لا يزال الوسيلة الأمثل في الوقت الحاضر لتنظيم شئون الناس في مصالحهم، وأنه إلى الآن لا يوجد بديل مؤهل لتنظيم مصالح الناس، لكن مكمن الخطورة يأتي حين يتم تطبيقها بصورة مختلفة ومنحازة عن أصولها مما يعني إحداث ضرر أكثر بين الفئات المهتمة بالشأن المشترك، ونظام التصويت والانتخابات له قانون وأصول ومبادئ لا يجب الحياد عنها.
بمعنى آخر: يجب تطبيقها من خلال نظام صارم ومحايد، وأن لا يُسمح بأي انحياز أومحاباة لجهة عن أخرى، وذلك لئلا يُؤدي الإنحياز وعدم الحياد في عملية التنظيم إلى إنقسام أكثر بين الفئات المهتمة، إذ لا يمكن قبول -على سبيل المثال- أن تُمنح فئة منافسة مهمة تنظيم الانتخابات وفحص شرعية المرشحين، بينما يتم استبعاد المرشحين الآخرين من المشاركة في عملية التنظيم، ويعد هذا الإنحياز مثالا صارخاً على فساد العملية الانتخابية، وحتمية حدوث نتائج سلبية، وعلى انتفاء العملية الديموقراطية من أهم خصائصها والتي يأتي على رأسها الحياد والشفافية..
في المجتمعات النامية، يحتاج الإنسان إلى تأسيس حقيقي من أجل أن يكون مهيأ لقبول: أولاً الاختلاف في الرأي والأفكار، وثانياً أن الديموقراطية آلية تحتاجها المجتمعات من أجل تنظيم ذلك الاختلاف، ودائما ما تؤدي المنافسة المبنية على قاعدة اختلاف الآراء والمناهج العملية إلى نتائج إيجابية إذا تم تطبيق الوسيلة الانتخابية بدون تلاعب أو إنحياز في التنظيم، لذلك تحتاج الأجيال الجديدة أن تتشبع بالمبادئ الديموقراطية مبكرأ، فالمستقبل القادم حتماً سيحتاج إلى خدمات مثل هذه اللآلية لتنظيم الصراع الإيجابي في الجمعيات العلمية والشركات والغرف التجارية والمجالس البلدية وغيرها.
من خلال الرؤية الإستراتيجية للمستقبل تأتي أهمية تعليم النشء الجدد ممارسة الديموقراطية في المدرسة، وأن يدركوا مبكرأ أهمية أنها مجرد آلية، يلجأ إليها الإنسان لتنظيم أعماله، وأنها تخلو من مضمونها إذا لم تتصف إجراءات التصويت والانتخابات بالنزاهة والحياد والإستقلال، وأيضاً أن لا يتم التلاعب بإجراءاتها أو محاولة التأثير على نتائجها من قبل المؤسسة المنظمة، لأن ذلك قد يؤدي إلى عدم الثقة والفساد والفوضى، كذلك أن يتعلموا أن مصالحهم الذاتية ستتجاوز في المستقبل علاقاتهم وإنتماءاتهم الاجتماعية والعشائرية.