قبل مواصلة الحديث عن موقف وطننا العزيز المشرِّف، قيادة وشعباً، تجاه قضية فلسطين، وجهوده المخلصة في دعم الشعب الفلسطيني..
.. أود الإجابة - وفق ما أعرف - عن سؤال أخ عزيز مهتم بالناحية التاريخية حول تلك القضية. وسؤال هذا الأخ العزيز هو: هل بدأ التصهين المسيحي في بريطانيا أم في أمريكا؟
الذي أعرفه أن من نتائج حركة لوثر أن تسربت إلى عقيدة مَنْ اعتنقوها ثلاثة أمور: أن اليهود هم شعب الله المختار، وأنه يربطهم بفلسطين ميثاق إلهي، وأن عودة المسيح المنتظرة لديهم مربوطة بتجمع اليهود في فلسطين. وهذه الأمور هي التي جعلت منهم متصهينين. ومما أعرفه أيضاً أنه لم ينته القرن السادس عشر الميلادي، الذي ظهرت في منتصفه الحركة البروتستانتية، إلا وقد بدأ البروتستانت في بريطانيا يكتبون معاهدات تنادي بأن يغادر جميع اليهود أوروبا إلى فلسطين؛ إيماناً منهم بعقيدة التصهين. وكانت طليعة من احتلوا أمريكا الشمالية التي أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية فيما بعد، من الأنجلو - ساكسون المتشبّعين بتلك العقيدة.
ولكونهم كذلك لم يكن غريباً أن ظهر تصهينهم بالصورة التي أشير إليها في مستهل الحلقة الأولى، وتطوَّر حتى نادى الرئيس الأمريكي دون آدمز بقيام دولة مستقلة لليهود في فلسطين عام 1818م، أي قبل وعد بلفور بمئة عام. وبعد عشرين عاماً من تلك المناداة بعث وزير البحرية البريطانية مذكرة إلى بالمرستون وزير خارجية بريطانيا، يدعوه فيها إلى الاقتداء بالإمبراطور الفارسي قورش بإعادة اليهود إلى فلسطين. وتزامن ذلك مع تبني بريطانيا مشروعاً عُرف بمشروع اللورد شافتسبري، مضمونه أن فلسطين «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». والحديث عن التصهين المسيحي، نشأة واستمراراً، يطول. لكن المرء الآن يكاد يضع يده على قلبه خوفاً من أن يظهر تصهين عربي إسلامي.
أما بعد:
في اللقاء، الذي تم بين الملك عبدالعزيز - رحمه الله - والرئيس روزفلت عام 1945م، طلب الرئيس من الملك السماح بدخول عدد من اليهود إلى فلسطين؛ فقال له الملك: لا. وبيّن أن اليهود لم ينجحوا في العمل على ازدهار المنطقة التي احتلوها إلا بفضل رؤوس المال الأمريكية والبريطانية، وأن الملايين التي أُعطيت لهم لو أُعطيت للعرب لعملوا مثل عملهم. وأوضح أن العرب لن يسمحوا لليهود بأي توسّع آخر في فلسطين مستقبلاً، وأنهم سيحملون السلاح دون ذلك التوسع. وعندما قال له الرئيس: ماذا نعمل باليهود المشرّدين من بلدانهم؟ أجابه بقوله: من أين أتوا؟ ليعد كل إلى بلده.
ولقد حاول الملك عبدالعزيز - رحمه الله - أن يرسل متطوعين سعوديين ليجاهدوا مع إخوانهم الفلسطينيين، لكنَّ الطريق سُدّ أمامهم؛ فكان أن أرسل كتيبة من الجيش السعودي لترافق الجيش المصري المتجه إلى فلسطين، وظل ثابتاً في موقفه العربي الإسلامي النبيل، الذي لا يتزعزع في رفضه الاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني على أرض فلسطين. وبقي خلفاؤه في الحُكْم من أبنائه الكرام مدافعين عن القضية الفلسطينية بكل ما يستطيعون، داعمين للشعب الفلسطيني بمختلف الوسائل. ومما يذكر؛ فيشكر لهم، أنهم رفضوا إقامة أي اتصال بالكيان الصهيوني بالرغم من إلحاح الإدارات الأمريكية المتصهينة المتعاقبة.
وكانت القدس بالذات - وفيها المسجد الأقصى قبلة المسلمين الأولى - في قلب كل واحد من أولئك الملوك الكرام. ولعلّ من أدلة ذلك إدراك شاعر فلسطين أن الملك سعوداً - رحمه الله - أهل لأن يُشتكى إليه وضع ذلك المسجد الشريف؛ فعندما زاره - قبل توليه الملك - ألقى ذلك الشاعر أمامه قصيدة قال في بيت منها:
المسجد الأقصى أجئت تزوره
أم جئت من قبل الضياع تودّعه؟
ومن الأدلة على ذلك أيضاً ما قامت به القيادة السعودية الموفقة إثر حرب 1967م من دعم مالي لتعزيز جبهات الصمود العربية والمجاهدين الفلسطينيين، بل إنها أرسلت قوات سعودية تقف في تلك الجبهات إلى جانب رفاق سلاحها من إخوانها العرب. وموقف الملك فيصل - رحمه الله - في حرب 1973م موقف يعرفه الجميع، ويقدرونه كل التقدير. ومن يقرأ مذكرات كيسنجر، وزير خارجية أمريكا الصهيوني حينذاك، يتضح له مدى رسوخ مسألة القدس في قلب ذلك الملك؛ فمما ذكره أنه كان يحاول إقناع الملك بإبداء مرونة مثل مرونة زعماء عرب آخرين، عارضاً عليه قيام أمريكا - بكل إمكانياتها العلمية والإدارية - بتطوير المملكة في مختلف المجالات، وأنه كان يطيل ويطيل في عرض ما يعرضه، والملك ينصت إليه، فإذا أكمل حديثه كان جواب الملك: وماذا عن القدس؟ وبطبيعة الحال، لم يكن لدى كيسنجر جواب عن ذلك السؤال.
وهذا أمر متوقع. وكيف يكون لديه جواب عن سؤال وجيه، وهو الصهيوني القائم بوزارة خارجية دولة أغلب مَنْ تعاقبوا على رئاستها متصهينون أو مضطرون إلى عدم إغضاب الصهاينة؟
أعلم أن القدس عزيزة على نفس كل عربي ومسلم يعتز بانتمائه إلى أمته. وأعلم - أيضاً - أن الكيان الصهيوني قام على الإرهاب، كما اعترف بذلك أحد قادة مجرميه، وهو مناحيم بيجن الحائز جائزة نوبل للسلام، في كتابه (الثورة)، وأنه ظل يرتكب أنواع الإرهاب البشعة التي هي صفة ملازمة له.
ومن المعروف أن حكومات الكيان الصهيوني المتعاقبة أياً كانت انتماءاتها الحزبية متفقة على تهويد الأراضي الفلسطينية التي احتلتها عام 1967م، وإخلائها من أهلها الأصليين. وما كانت اتفاقية أوسلو، التي أمل فيها اللاهثون وراء سراب المفاوضات من الفلسطينيين وغيرهم من العرب، إلا محطة استخدمها قادة الصهاينة أبرع استخدام لمواصلة تهويد الأرض المحتلة وتكثيف هذا التهويد.
ومن المعروف - أيضاً - أن كلاً من الصهاينة والمتصهينين متفقون من حيث المبدأ على ألا عودة إلى حدود عام 1967م، وأنه لا حق لعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم، مع أن هذا الحق قد أقرته الأمم المتحدة. ولا أظنهم مختلفين حول بقاء المستعمرات الاستيطانية الصهيونية الممزِّقة لأراضي الضفة الغربية المصادرة لأحسنها، ولا حول الجدار العنصري.
بل قد إن تهويد الأرض الفلسطينية ما زال يزداد بسرعة كل يوم، وإن أركان المسجد الأقصى الآن مهددة بالتهدم نتيجة الحفريات التي يقوم بها الصهاينة. ولا يبدو - مع الأسف الشديد - إلا أن أكثر زعماء أمتنا في واد والأخطار التي يواجهها المسجد الأقصى في واد آخر. وإذا انساق المرء مع عدم تفاؤله - بناء على ما يراه ويؤلمه - فلا بد أن يخطر بباله أن يسأل: ماذا سيكون رد فعل هؤلاء الزعماء السادرين لو فوجئ الجميع بإقدام الصهاينة على ارتكاب هدم الأقصى أو هدم أجزاء منه؟ ما يعتقده مَنْ يخطر بباله ذلك السؤال هو أن الإجراء الوحيد الذي سيقومون به هو الشكوى إلى مجلس الأمن. وكنت قد عبَّرت عن مثل هذا الموقف ذات يوم بقولي:
السادرون من الحكام ما برحوا
يرجون مَنْ سلب الأوطان واغتصبا
لمجلس الأمن قد مدّوا أكفّهمُ
ساء المؤمِّل والمأمول منقلبا
هل يفرض المجلس الدولي سلطته
إلا إذا استهدف الإسلام والعربا؟