منذ سنوات راجت ظاهرة روايات حكواتية مجدبة إبداعياً، وحظيت بانجذاب جماهيري، ولكن يبدو أن الظاهرة أخذت بالتقلص خلال الأشهر الأخيرة.. ثم باغتنا عبده خال معلناً بداية النهاية لهذا اليباب الإبداعي..
بضع سنوات تفصل بين ما قام به روجر آلان أهم مستعرب للرواية العربية من رفض ترجمة الرواية السعودية «بنات الرياض» وبين حصول رواية سعودية أخرى «ترمي بشرر..» على جائزة البوكر لأفضل رواية عربية الأسبوع الفائت.. وهذه الجائزة تعد حالياً أهم جائزة عربية للرواية، رغم قصر عمرها عربياً. وكلاهما روجر وبوكر الأخيرة بريطانيان الأصل عربيان اللغة!
يروي لنا الناقد والمفكر جابر عصفور - عبر صحيفة الحياة - أنه التقى بصديقه القديم روجر الذي حصل على الدكتوراه من جامعة أكسفورد منذ زمان في أعمال المويلحي، وأصدر عمله العلامة (حديث عيسى بن هشام).. وذكر روجر أنه سبق لسلسلة بنجوين العالمية أن اشترت حق ترجمة رواية «بنات الرياض» للكاتبة السعودية رجاء الصانع، وعرضت عليه أن يتولى ترجمتها للإنجليزية، لكنه اعتذر وأوصى بمترجم غيره. ويقول عصفور لما سألت روجر عن سبب اعتذاره، صارحني برأيه السلبي في الرواية.. ويستطرد عصفور: «قادنا الحديث بالضرورة، إلى أسباب ذيوع هذه الرواية، وصدور الطبعة الرابعة لها بعد سنوات قليلة من صدورها.. كغيرها من روايات عربية أصبحت ذائعة الانتشار إلى درجة لافتة في الأقطار العربية.. ووافقني روجر مؤكداً أنه سيشارك قريباً في أحد المؤتمرات، وأنه أعدّ بحثاً بعنوان (روايات البيست سيللر العربية) محاولاً تحليل هذه الظاهرة الجديدة..».
يتفق أغلب النُقاد أنه لا علاقة بين رواج الرواية وبين قيمتها الفنية، ليس في السعودية والمنطقة العربية فحسب بل في دول العالم قاطبة. فالرواج الجماهيري يعتمد على عناصر الإثارة والتشويق بغض النظر عن جودة العمل. ومما يزيد هذا الرواج انتشاراً في مرحلة عولمة الإعلام والاتصالات هو طغيان المسألة التسويقية، فقنوات الإعلام تتسابق على إرضاء الجمهور من أجل الإعلانات.. وقد سبق للمفكر الأمريكي المرحب بالثقافة الشعبوية التجارية مالكوم جلادول في كتابه (The Tipping Point) أن طرح أفكاره في مسألة الرواج الجماهيري متناولاً الجوانب النفسية والاجتماعية والثقافية الجديدة وحصرها كلها تقريباً في المسألة التسويقية.. فحسب جلادول أصبحنا في كل لحظة وبكافة أنشطتنا الحياتية نمارس عملية تسويق.. وأنجحنا هو من يُنتج العاطفة (البضاعة) الأكثر تأثيراً وإرضاءً للجماهير (الزبائن).. فثمة بائع ومشتر! وهنا الروائي (البائع) لا يوجد له أفضل من جذب القُراء (المشترين) إلا بالمسائل المثيرة في الجنس والدين والسياسة.
جلادول وضع ثلاثة عوامل تسويقية للجذب أيا كان المنتج (ثقافيا، سياسيا، تجاريا)، وهي: الشكل المؤثر.. أي شيء يحبه المستهلكون؛ ثم عامل اللصق بالذاكرة.. أي شيء يلتصق بذاكرة المستهلك؛ وثالثاً عامل قوة السياق.. أي شيء يناسب السياق المكاني والزماني المحيط بمشاعر المستهلكين.. فالمهم هو جذب الجمهور وليس الكفاءة ولا الجودة..
إذن الظاهرة ليست محلية بل عالمية، ولكن ما يجعل منها محلية متفاقمة في مجال الرواية هو النمط الجديد من الإثارة الفضائحية على المجتمع السعودي الذي لم يعهده، مما أفضى إلى اندفاع جماهيري عليها. والإثارة بحد ذاتها ليست نقيصة، بل هي أداة من أدوات العمل الفني، إنما الخلل في الاعتماد عليها. ففي الوقت الذي يوجد به عالمياً كل أنواع الروايات من التقريرية الفجة إلى الفنية المبدعة، ظهر في السعودية وكأن الرواية المبدعة تتوارى خجلاً أمام الرواية المعتمدة على الإثارة.. وتزحزحت أسماء مبدعة كان لها حضورها الإبداعي وكانت مسكونة بالهاجس الروائي، لصالح أسماء دخلت في ميدان الرواية من غير بوابتها بل بعضها من التقرير الإخباري وبعضها من المقالة الصحفية وبعض آخر أتى من سرديات الحكاية القديمة.. وأصبح من يرغب بالكتابة يمكنه طبخ رواية بعد أن يضيف لها ملح الإثارة وبهار الممنوع، فكل ممنوع مرغوب.. هنا سادت التقريرية على المشهد الروائي، وراجت سرديات متواضعة هي غالباً مذكرات يومية أو سير شخصية عادية أو حكايات تتراوح بين الوعظ الإرشادي والتقرير الخبري..
لا غضاضة في بروز أسماء لا يعنيها الأدب كفن وغير مسكونة بالهاجس الروائي، فقد تتحسن وتُثبت جدارتها لاحقاً أو قد تلفظها الساحة الفنية سريعاً؛ ولا مشكلة في الإنتاج الروائي الرديء، لأنه سرعان ما يُنسى؛ لكن المربك أن تهيمن أعمال ضعيفة فنياً وتُزيح الأعمال الفنية الجادة وتهمشها.. المربك والمحزن أن يكون أفضل الأعمال رواجاً هو الرديء.. لتغدو مقولة: «الضد يظهر حسنه الضد» معكوسة الدلالة!
هذا المربك المحزن كان متوقعاً له فترة ليست قصيرة قبل أن يملّ القارئ السعودي من الإثارة السطحية المشوقة التي لم يعتد عليها. لكن للمفارقة السعيدة، يبدو أن فترة الهيمنة السلبية أقصر مما كنا نتوقع، لأن الإنترنت لم يُقصَّر في ضخ التشويق حد الثمالة. ولنا أن نتذكر أفلام المقاولات التي ظهرت في الثمانينيات وكيف انتشرت كالسيل العرم، وكان مخرجوها يهزؤون بالنقاد والمثقفين ويزعمون أنها ستبقى رغم نقد النخبويين، فولاؤهم كان للجمهور بالعبارة المشهورة آنذاك: «الجمهور عايز كده»، ثم هجرها كل الناس سريعاً، حتى من يراها اليوم يصاب بالغثيان!
ربما من حسنات موجة الروايات المتواضعة هي تحفيزها لغريزة التحدي للروائيين المبدعين، مما ضخ دماً جديداً في أعمالها الإبداعية التي كانت نخبوية لا تعترف بها الجماهير.. فدبَّت بها حيوية جديدة تصل للجماهير وفي نفس الوقت تحافظ على تألقها الفني، فظهرت أسماء فذَّة جديدة وعادت بعض الأسماء المبدعة السابقة إلى صدارة المشهد خاصة خلال الشهور الماضية.. ومنها على سبيل المثال لا الحصر: رجاء عالم، عبده خال، يوسف المحيميد، أميمة الخميس، بدرية البشر، عبدالله بن بخيت، عبدالله ثابت، محمد حسن علوان، موسى النقيدان.. وثلاثة منها رشحت لجائزة البوكر.. لا! لم تكن المفاجئة المبهجة حصول عبده خال على جائزة البوكر فهو مستحق جدير بها، إنما كان الأكثر بهجة هو لذة التوقيت، حين بدأت الرواية السعودية المبدعة تستعيد عافيتها وتحاول موازنة رشاقتها.. وفيما كانت بحاجة لوهج إعلامي، أتت الجائزة ضربة في مرمى الهدف، بينما الرواية التقريرية الفجَّّة تعود القهقرى غير مأسوف عليها.
alhebib@yahoo.com