Al Jazirah NewsPaper Monday  15/03/2010 G Issue 13682
الأثنين 29 ربيع الأول 1431   العدد  13682
 
الرئة الثالثة
وقفات بين يدي الماضي!
عبد الرحمن بن محمد السدحان

 

يحلو لنفسي بين الفينة والأخرى أن تنتبذ ركناً آمناً في خيمة الذكرى، لتختلس نظرات تأملية مشبعة بالحميمية إلى بعض المحطات المهمة في حياتي، القريب منها والبعيد، إما لغرض العبرة، فاعتبر، وإما لشكر أنعم الله علي، فأشكره تعالى أن بدل عسر الأمس يسراً.

وأنا أفعل ذلك عن وعي مشحون بالحنين الصادق لذلك الماضي، على الرغم مما اخترقه من شجن النفس وتشرُّد الجسد وتيه الفؤاد حيناً من الزمن، بحثاً عن قطرات من السكينة أطفئ بها ظمأ السنين، وحرمانها من حنان الأم ورأفة الأب، رحمهما الله.

ولذا، لم أتردد يوماً في وصف تلك المرحلة من طفولتي ب(اليتم الطوعي)، على الرغم من وجود الأبوين وقتئذ، لكن (لعنة) انفصالهما عرضتني لوابل من (الرجم) نال مني جسداً ووجداناً.

سأشغل الآن ما بقي من المساحة المتاحة لهذا المقال بذكر موجز لبعض المحطات المهمة في حياتي، انطلاقاً من التمهيد الاستهلاكي لهذا الحديث.

1- ولادة الوعي:

تزامنت ولادة الوعي الحقيقي في دنياي مع خطواتي الأولى داخل الحرم الجامعي في أمريكا، لحظتئذٍ، شعرت لأول مرة، أنني دخلت نفق التشكل الإرادي والمعنوي ل(عبد الرحمن) الإنسان الجديد الرابض في أعماقي، وأبصرت، ولأول مرة أيضاً، بصيصاً باهتاً من النور في نهاية ذلك النفق الطويل جعلني أعقد العزم على قبول التحدي متوكلاً على الله. كنت بعيداً جغرافياً عن الأهل والأصحاب والأتراب وأرض الذكريات، لكنني كنت إحساساً وشعوراً قريباً جداً من بلادي ومن أهلي، حباً وانتماءً، وكنت حريصاً على استثمار كل دقيقة لأحقق لنفسي النقلة المنشودة عقلاً وروحاً وسلوكاً، كي (أتأهّل) لخدمة ذلك التراب البعيد خدمة تتساوى عمقاً مع الحب له ونشوة العودة إليه يوماً ما إنساناً جديداً!

نعم.. كانت (سُعرات) التجربة في أمريكا، دراسة وتعايشاً وحياة، عالية التركيز، ثرّة العطاء، ولذا أجرؤ اليوم على القول إنني عثرت على نفسي في ثنايا تلك التجربة.. على الرغم من قسوة الغربة وشَجَن الحنين إلى كل شيء أنتمي إليه، ولكن.. كان لابد من ذلك الانصهار لتتحقق الولادة الجديدة بكل ما فيها من ألم وعطاء!

2- أمي.. ثم أمي!

سئلت أكثر من مرة: لِمَ يحتفي حرفك كثيراً بالحديث عن والدتك رحمها الله حتى ليتبادر إلى ذهن القارئ وكأنها (البوصلة) التي (اهتدى) بها قارب نموك عبر أكثر من محطة في حياتك، فقلت:

لِمَ لا تكون سيدتي الوالدة طيب الله ثراها (بوصلة) الحب في مشواري العاصف مع الحياة، وهي التي حملتني وهناً على وهن، وتحملت في سبيلي كل أنواع الضيم، ما عُرف منه وما لم يُعرف! إما بسبب أوجاع الصغر التي كادت تُودي بحياتي.. أو بسبب حالة الشتات التي حاصرتني من كل جانب بعد افتراق الوالدين.. رحمهما الله! كانت أمي.. هي (الفنار) الذي أضاء شُطآن حياتي، سواءً كنتُ حاضراً بين يديها أو بعيداً عنها، وكان دعاؤها الحنون رحمها الله وأرضاها يصلني في كل مكان آوي إليه! أيعجب أحد بعد هذا كله كيف تستأثر سيدتي الوالدة بالكثير من ملاحم حرفي؟! أليست أهلاً للحب وهي التي علمتني قولاً وسلوكاً كيف أحبُّ ولا أكره؟!

3- يتيمتي صحيفة الحائط!

ما زلتُ احتفظ ب(يتيمتي) الوحيدة صحيفة الحائط التي أنشأتها قبل نحو خمسين عاماً بالمدرسة النموذجية الابتدائية بجدة، وأسميتها (صوت الطالب) ظناً مني أنها ستكون (منبراً من لا منبر له) من زملاء الدراسة، وأنها ستنمو وتبقى لتحقق ذلك الهدف، لكنها ولدت يتيمة، وكاد اليتم يُودعها غياهب النسيان، لولا أن المصادفة وحدها أبقتها لتنتقل معي إلى الرياض في مطلع عام 1376ه، ثم تدخل في (غيبوبة) طويلة حتى عُدت من أمريكا لانتشلها بعد أن كاد الإهمال يحوّلها إلى أشلاء، ثم أردّ لها الاعتبار بعد ذلك لتكون (صحيفة حائط) من جديد (تسكن) بروازاً جميلاً داخل مكتبة منزلي، ثم تُخلَّدُ بعد ذلك بالظهور في كتاب ذكرياتي (قطرات من سحائب الذكرى)!

اليوم.. أقرؤها للمرة المليون.. فأبتسم ابتسامة تبللها دمعة ذكرى ليوم ولِدت هي بين يديّ داخل (زنزانتي) الصغيرة في منزل العائلة في جدة!




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد