تبلى الأنامل تحت الأرض في جدث |
وخطها في كتاب يؤنس البصرا |
اعتدت مهاتفة بعض زملائي وأصدقائي بمنطقة القصيم، وغالبا ما يكون ذلك يوم الجمعة لتجديد التواصل والاطمئنان على صحتهم، والسؤال عن أحوالهم، وأدعو من تسنح له الظروف بزيارتي في محافظة حريملاء أثناء قدومهم إلى الرياض، ومحاذاتهم أجواء حريملاء مذكرا لهم أن التواصل بين الأحبة محمدة لتقوية أواصر المحبة واستمرارها، فالأعمار ليس فيها متسع للتسويف والتباعد، فانتهاز فرص التزاور من أحلى ساعات العمر وأسناها:
|
وما بقيت من اللذات إلا |
محادثة الرجال ذوي العقول |
وحينما اتصلت على منزل الأخ الصديق احمد بن محمد العبدان بمدينة بريدة بالقصيم كالعادة صباح يوم الجمعة 21-2-1431هـ للسلام عليه والاطمئنان على صحته التي ساءت وتدهورت في الآونة الأخيرة، فردت علي إحدى حفيداته وهي مجهشة بالبكاء قائلة: والدنا الأكبر رحل وتركنا ملبيا داعي الله، وكان لذاك النبأ وقع محزن ومؤلم في نفسي، فلم أملك في تلك اللحظة الموجعة لقلبي سوى تلاوة الآية الكريمة: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، فلقد ولد ذاك الرجل الفنان فنان الرسم والنقش على البيض بمدينة بريدة عام 1341هـ وعاش طفولته في أكنافها، وبعد ما ختم القرآن الكريم وحسن خطه في إحدى مدارس الكتاب لتحفيظ القرآن العزيز، أخذ يحضر مجالس الذكر لدى العلماء وما يدور فيها من نقاش وتلاوة، وعن أخبار الأقدمين وسيرهم، وقد ساعد ذلك على اتساع آفاق المعرفة لديه وعلى السير في الحياة سيرا مرضيا، فبدأت عليه مخايل الذكاء والحذق والفطنة، فلما رأى بعض أقرانه وأصدقائه يذهبون إلى الرياض بصحبة آبائهم أو بعض أقاربهم ليأخذوا بأسباب المعيشة هناك، فلم ير بدا من التوجه إلى الرياض مع صاحب سيارة أجرة بأجر قدره خمسة ريالات مؤجلة ..! لأنه لا يملك شيئا من المال، فألفى على أخيه عبدالله الذي كان يعمل بالمالية، ثم فكر في عمل يعيش به، وكان موهوبا في جمال الخط والإملاء، فاشترى قلما ومحبرة وقرطاسا، ثم جلس في مكان تجمع الناس وشيوخ البوادي والقبائل وغيرهم ..، على مقربة من مكتب ديوان جلالة الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- فأخذ يكتب الرسائل و(المعاريض) التي تقدم إلى الملك عبدالعزيز بطلب (شرهه) تستمر سنويا من المال وما يتبعها من المصاريف المتعارف عليها في تلك الحقبة..، أو خطابات تظلمهم من خصم أو خلاف ذلك..، فكتابة كل معروض بقرش واحد..، فهو مميز الخط كما أسلفنا..، واستمر فترة وجيزة على هذا المنوال، بعد ذلك أخذه أخوه عبدالله إلى وزير المالية آنذاك (الشيخ عبدالله اللنجاوي) لأجل توظيفه بالمالية، فطلب منه أن يقدم معروضاً خطياً مبدياً رغبته في العمل الوظيفي، وهدف الشيخ اللنجاوي أن يطمئن على حسن خطه وإملائه، ثم عين براتب قدره أربعمئة وأربعون قرشاً تساوي أربعين ريالاً، وذلك في عام 1359هـ (رحم الله الجميع) فاستمر في عمله متدرجاً في سلم الرواتب حتى أنهى الخدمة النظامية مع مدة التعاقد معه حيث طلب إعفاءه بعد رحلة طويلة مشرفة في الخدمة بلغت واحدا وخمسين عاماً، كما كان يستغل فراغه في مزاولة هوايته المحببة إليه: الرسم والنقش على البيض متوسط الحجم بالخط الجميل المميز، وقد بلغ عددها أكثر من مئة وخمس وعشرين بيضة جمع صورها ملونة أخوه الراحل عبدالعزيز بن محمد العبدان في كتاب أسماه:
|
فنان (ينقش البيض)، وقد طبع عام 1407هـ ثم أعيدت طباعته مرة ثانية عام 1416هـ بطباعة جيدة وتعتبر من أثمن التحف؛ حيث يخط عليها بعض العبارات التي يكون لها علاقة ببعض الأحداث والمناسبات والذكر الجميلة فيهديها على علية القوم من ملوك ووزراء وأصدقاء حسب كل مناسبة كلها بخط ورسوم تؤنس البصر فيردون عليه برسائل تحمل في ثناياها الشكر والإعجاب بموهبته الفريدة التي يندر مثلها !، وكأني به رحمه الله « حين يفرغ من كل واحدة يتذكر ويردد في خاطرة الأبيات الثلاثة التي رثا بها نفسه الشاعر الأبيوردي حينما انتهى من كتابة ديوانه المكون من جزأين سنة 730هـ: حيث يقول:
|
تبلى الأنامل تحت الأرض في جدث |
وخطها في كتاب يؤنس البصرا |
كم من كتاب كريم كان كاتبه |
قد ألبس الترب والآجر والحجرا |
يامن إذا نظرت عيناه كتبتنا |
كن بالدعاء لنا والخير مدكرا |
وكان محل ثقة المسئولين بوزارة المالية؛ حيث يكلفونه بالانتداب أشهراً طويلة لتسليم (الشرهات) العوائد السنوية التي سنها جلالة الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- لكثير من المواطنين حاضرة وبادية تكرما منه لأبناء شعبه:، فسمعة الشيخ أحمد عندهم معطرة بالثناء؛ حيث إنه يتمتع بالأمانة والدقة في التعامل والحرص على تسليم المستحقات لأصحابها في وقتها، بل إنه إذا علم بمرض بعض الأشخاص أو لكبر سنهم فإنه يذهب إليهم بنفسه:، ولقد شرفني في منزلي بحريملاء هو وبعض الشباب والزميل الوفي الأستاذ عبدالرحمن وأخيه الشيخ عبدالعزيز أبناء الشيخ عبدالله العبدان، وهو مصطحب معه هدية تعتبر من أثمن الهدايا وأحبها إلي، وهي عبارة عن بيضة كبيرة قد خطت عليها أنامله سورة (ن) كاملة بتاريخ 2-12-1405هـ حيث كساها بتلك الآيات الكريمة، كما برفقها لوحة صغيرة مبروزة تتوسطها بيضة ملونة ومتوجة بسورة الكعبة المشرفة ومكتوب عليها بعض الآيات {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} لأجل تحلية طاولة مكتبنا آنذاك أثناء عملنا مديراً للمتوسطة والثانوية بحريملاء، فجزاه الله عنا خيراً، وبعد أن تقاعد وأخلد إلى الراحة استبد به الحنين إلى مراتع طفولته ببريدة فقضى بقية أيام حياته هناك مع من بقي من رفاقه ليأنس بهم. -رحمه الله-:
|
المرء يسرح في الآفاق (مغتربا) |
ونفسه أبدا تتوق إلى الوطن |
فالذكريات الجميلة معه ومع أسرة آل عبدان يطول مداها وما يتخللها من تبادل الزيارات، وكانت كل كتاباته تحث على الوفاء ومكارم الأخلاق، والثناء على من يقدم خدمات لوطنه وعلى المحسنين في رعاية الأيتام والمساكين مستحضراً هذين البيتين:
|
وما من كاتب إلا سيبلي |
ويبقى الدهر ما كتبت يداه |
فلا تكتب بكفك غير شيء |
يسرك في القيامة أن تراه |
غفر الله له وأسكنه فسيح جناته، وألهم ذويه وأبناءه وبناته وعقيلتيه، ومحبيه الصبر والسلوان (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ).
|
عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف |
حريملاء |
|