لا يختلف اثنان على أن سقف الحريات الصحفية في عصر الملك عبدالله قد ارتفع. الكاتب والصحفي أصبحا في هذا العهد الزاهر يتمتعان بحرية أفضل بكثير من الماضي، وهامش النقد وصل اليوم إلى مستويات لم يكن يصل إليها في السابق. ويكاد يتفق العاملون في المجال الإعلامي أن وزير الثقافة والإعلام هو وزير (استثنائي) بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ يتعامل مع الصحفيين والكتاب، وكل من له علاقة بالإعلام، بعقلية (الزميل) المتفهم، وليس بسطوة وتسلط (الرئيس) المتجهم؛ وهذه - بالمناسبة - إحدى أهم مميزات الدكتور عبدالعزيز خوجة؛ فهو قبل أن يكون وزيراً هو شاعر ومثقف، ومنفتح، ويستطيع كل ذي شأن ثقافي أو إعلامي أن يدير معه حواراً، فيجد أذناً صاغية، وعقلية متفهمة، وخلقاً رفيعاً، يتناسب تماماً مع توجهات خادم الحرمين الشريفين، الذي منحه الثقة، فكان أهلاً لها شعاراً وممارسة، وأنا هنا لا أقول إلا ما يتردد على شفاه كثير من المعنيين بالشأن الإعلامي في مجالسهم الخاصة.
غير أن الحرية التي منحها لنا ولاة الأمر في هذه البلاد، وهذا السقف المرتفع الذي نكتب فيه، والنقد المسؤول والبناء الذي نمارسه، أصبح يعيقه، ويقمعه، ويضيق عليه (المستبد المعلن).
كيف؟
الخصخصة تعني أن تتحول الخدمات العامة التي تقدمها الدولة من القطاع العام إلى القطاع الخاص. أي أن كثيراً من الخدمات التي كانت تتولاها الدولة في الماضي أصبحت تضطلع بها الآن المنشآت التجارية.. والإعلان - كما هو معروف - جزء رئيس من سياسة التسويق التجارية، وصناعة (الإمج)، وحفر الشهرة في أذهان الناس في المنشآت التجارية. وعلى هذا الأساس صارت بعض الخدمات المرتبطة بحياة الناس جلها شأن (تجاري) وليس حكوميا؛ وبالتالي أصبح المعلن التجاري يوظف الإعلان والحملات الإعلانية ليس لخدمة منشأته فحسب، وإنما - أيضاً - لحماية مديري المنشأة من النقد، ومنع ما قد يُسيء إلى المديرين والمسؤولين عن هذه الخدمات؛ الأمر الذي جعل مديري هذه الشركات وصناع القرار فيها في حصن حصين من النقد؛ فالصحيفة، أو وسيلة الإعلام التي تتخطى فيما تطرحه من مواضيع هذه الخطوط (الحمراء) معنى ذلك أن هذا (التخطي) أو قل: التمرد، سينعكس سلبياً على حصة هذه الصحيفة أو تلك من العقود الإعلانية، ويتأثر دخلها في المحصلة؛ والنتيجة أن (النقد) الذي يجب أن يكون من أهم مهام الصحف، وبالذات في القضايا الخدماتية، سيتقلص، وربما ينتهي. والصحيفة، أي صحيفة، هي منشأة تجارية، استمرارها - فضلاً عن قوتها - يعتمد على دخلها من الإعلان، ويهمها (أولاً) الأرباح؛ فهي بالنسبة لها أساس البقاء والاستمرار. ولا أبالغ إن قلت إن الصحف الآن تستطيع أن تنتقد أي جهة حكومية، أياً كانت، لكنها لا تستطيع أن تنشر أي نقد، أو حتى مجرد خبر، من شأنه أن ينعكس سلبياً على الشركة أو من يضطلع بإدارتها، وبالذات الشركات (الخدماتية) الكبرى التي تخصص ميزانية ضخمة للإعلان. أي أن الإعلان في زمن (الخصخصة) أصبح الرقيب الذي يقمع الحريات، ويكمم الأفواه، ويسلب من الصحف كأداة تعبير ورقابة أهم مسؤولياتها.
هذا ما أضعه أمام وزير إعلامنا المحبوب، آملاً أن يجد لنا طريقة للتخلص من ظلم هذا (المستبد المعلن).
إلى اللقاء