إنّ قضية تكفير المسلم شأنها عند الله عظيم، وهي من أخطر البدع التي ابتلي بها بعض المسلمين برمي الناس بالكفر. بل إنّ أهل العلم حذروا من تكفير الشخص المعين، إذا ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام المتفق عليها، والمعروفة عند أهل العلم،
ما لم تقم عليه الحجة، وينتفي التأويل. ولذا قال الله - تعالى -: « وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا .... «، فقد نهى الله - تعالى - عن وصف الشخص بعدم الإيمان مع إظهاره إياه، بإلقاء السلام الذي هو من شعار المسلمين.
لا أبالغ إن قلت: إنّ قضية التكفير كانت سبباً لكثير من الانحرافات العقدية، التي ابتليت بها أمتنا الإسلامية منذ أربعة عشر قرناً، حين كفّرت الخوارج علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، بعد حادثة التحكيم المشهورة، ثم أصبحوا خنجراً مسموماً في خاصرة - الدولتين - الأموية والعباسية، واستمر التكفير إلى أن نشط في ستينيات القرن العشرين، وإلى يومنا هذا. ولأنّ تكفير المعين خطره عظيم، فقد قال ابن تيمية - رحمه الله -: «وليس لأحد أن يكفّر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتبيّن له المحجة. ومن ثبت إسلامه بيقين، لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلاّ بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة «. وقال ابن عبد البر في التمهيد : « فالقرآن والسنّة ينهيان عن تفسيق المسلم وتكفيره ببيان لا إشكال فيه، ومن جهة النظر الصحيح الذي لا مدفع له، أنّ كلّ من ثبت له عقد الإسلام في وقت بإجماع من المسلمين، ثم أذنب ذنباً، أو تأول تأويلاً، فاختلفوا بعد في خروجه من الإسلام، لم يكن لاختلافهم بعد إجماعهم معنى يوجب حجة، ولا يخرج من الإسلام المتفق عليه إلا باتفاق آخر، أو سنّة ثابتة لا معارض لها، وقد اتفق أهل السنّة والجماعة وهم أهل الفقه والأثر، على أن أحداً لا يخرجه ذنبه وإن عظم من الإسلام، وخالفهم أهل البدع. فالواجب في النظر أن لا يكفر إلا أن اتفق الجميع على تكفيره، أو قام على تكفيره دليل لا مدفع له من كتاب، أو سنّة «.
وكما أن التكفير لا يصح بدون برهان واضح، ولا تقليد للآخرين، فإنه - أيضاً - لا يصح في المسائل الاجتهادية، أو في المسائل الذي جرى فيها خلاف معتبر وإن خالف السنّة. ولذا قال ابن تيمية - رحمه الله -: « وأجمع الصحابة وسائر أئمة المسلمين، على أنه ليس كل من قال قولاً أخطأ فيه أنه يكفر بذلك، وإن كان قوله مخالفاً للسنّة، فتكفير كل مخطئ خلاف الإجماع «. وقال تقي الدين السبكي - رحمه الله - « ثم إنّ تلك المسائل التي يفتى فيها بتكفير هؤلاء القوم، في غاية الدقة والغموض لكثرة شبهها، واختلاف قرائنها، وتفاوت دعاويها، ومعرفة الألفاظ المحتملة للتأويل وغير المحتملة، وذلك يستدعي معرفة جميع طرق أهل اللسان في حقائقها ومجازاتها واستعاراتها، ومعرفة دقائق التوحيد وغوامضه، إلى غير ذلك. فما بقي الحكم بالتكفير إلاّ لمن صرح بالكفر واختاره ديناً، وجحد الشهادتين وخرج عن دين الإسلام جملة، وهذا نادر وقوعه «.
إن من قواعد أهل السنّة والجماعة، كما ذكر ذلك - الدكتور - مصطفى مخدوم، ضرورة التفريق بين التكفير المطلق المعلّق بالأعمال، وبين تكفير الشخص، أو الطائفة المعينة، فيقولون: العمل الفلاني كفر، ومن قال: كذا فهو كافر، ولكن عندما يتعلّق الحكم بشخص معيّن، ينظرون إلى توفر الأسباب والشروط، وانتفاء الموانع. وبالتالي فقد يكون عمله كفراً، ولكن لا يحكم على الشخص بالكفر بناءً على عذر شرعي، مثل: كونه حديث عهد بإسلام، أو نشأ بأرض بعيدة عن العلم وأهله، أو عرضت له شبهة تأويل.
قال ابن تيمية - رحمه الله -: « إنّ القول قد يكون كفراً فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال: من قال هذا فهو كافر، لكن الشخص المعيّن الذي قاله لا يحكم بكفره، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا كما في نصوص الوعيد، فإن الله يقول: ?إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا? (10) سورة النساء ، فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد على معين من أهل القبلة بالنار، لجواز أن لا يلحقه الوعيد لفوات شرط، أو ثبوت مانع، فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم .. وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة المحرم .. وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع .. وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق .. وقد تكون بلغته ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد تكون عرضت له شبهات يعذره الله بها .. ومذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بين النوع والمعيّن «.
ويشهد لما سبق، قوله - صلى الله عليه وسلم -: « كان رجل ممن كان قبلكم يسيء الظن بعمله فقال لأهله: إذا أنا مت فخذوني، فذروني في البحر في يوم صائف، ففعلوا به، فجمعه الله، ثم قال: ما حملك على الذي صنعت؟ قال: ما حملني عليه إلا مخافتك فغفر له «. وفي رواية أنه قال: « لو قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين ..». قال ابن تيمية - رحمه الله -: « فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذرّي، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكنه كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك .. «. ويشهد لهذا الأصل - أيضاً - قصة قدامة بن مظعون - وهو من أهل بدر - الذي اجتهد، واستحل شرب الخمر متأولاً، قوله - تعالى - : « لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ». فردّ عليه عمر، وقال: « أخطأت التأويل، فإنك إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله عليك «، ثم أمر بإقامة الحد عليه. فهذا الصحابي استحلّ محرماً بسبب الشبهة والتأويل، ولم يكفره عمر والصحابة - رضي الله عنهم - لذلك.
وهكذا جرى عمل - الإمام - أحمد وغيره من علماء الأمة، حيث إنه كفر الجهمية، ولكنه لم يكفر أعيانهم، ولا من وافقهم من الخلفاء وغيرهم، بل اعتقد إمامة الخليفة وصلى خلفه. قال ابن قدامة: « وقد عرف من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة ومن بعدهم، واستحلال دمائهم وأموالهم، واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى ربهم، ومع هذا لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأويلهم، وكذلك يخرج في كل محرم استحل بتأويل مثل هذا «، ثم قال: « وكذلك كل جاهل بشيء يمكن أن يجهله، لا يحكم بكفره حتى يعرف ذلك، وتزول عنه الشبهة ويستحله بعد ذلك «.
إن التكفير من القضايا الخطيرة، التي زلّت فيها أقدام، وضلّت فيها أفهام، وطاشت فيها أقلام، فأخرج عن فقهه الشرعي. مع أن نهج الإسلام نهج صارم في الكف عن تكفير المسلم، وبقائه في دائرة الإسلام. إذ هو حكم شرعي له شروطه وموانعه، لا يثبت إلا بدليل شرعي، مبني على صحة التصور كسائر الأحكام الشرعية، يحتاج إلى نظر دقيق، وعلم عميق، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن الحاجة ملحّة إلى عقد مؤتمرات علمية، لطرح مفهوم التكفير في الإسلام وضوابطه، وجذور هذه الظاهرة التاريخية والعقدية والفكرية، والأسباب المؤدية لها، وشبهات الفكر التكفيري قديماً وحديثاً، ومناقشتها وفق الضوابط الشرعية، وشبهات الخوارج والجماعات التكفيرية المعاصرة والرد عليها، والآثار الأمنية والاجتماعية والاقتصادية لظاهرة التكفير، وأثر التكفير في مستقبل الإسلام، ومسؤولية مؤسسات المجتمع في علاج ظاهرة التكفير الدعوية والتربوية والتعليمية والاجتماعية والإعلامية، وعلاج ظاهرة التكفير، على غرار المؤتمر العالمي الذي نظمته جائزة - الأمير - نايف بن عبد العزيز العالمية للسنّة النبوية والدراسات الإسلامية المعاصرة.
drsasq@gmail.com