اعلم -رحمك الله تعالى- أن المديرين ليسوا سواء، بل هم أصناف وألوان وأشكال مختلفة وطبائع متنافرة وأنفس وأمزجة متغيرة متقلبة، فيهم السهل اللين العريكة، السمح، العذب، الطيب، اليسير المدخل والمخرج، المتسامح، العطوف،
|
الوفي، الواثق، المقدام، الشجاع، الجسور على اتخاذ القرار المناسب في كل الأوقات المناسبة وحتى غير المناسبة، إن لزم الأمر!
|
وفيهم المتجبر المتكبر المتبختر الغليظ القاسي، العنيف المزعج في إقباله وفي إدباره، في حضوره وفي غيابه!
|
ومن هذا الصنف أيضاً قد نشتق أصنافاً وأشكالاً أخرى:
|
فمنهم من يغلبه الغرور والعجب بالنفس والثقة المطلقة في الكرسي الدوار الذي قذف من قبله مديرين ربما كانوا أشد منه قوة وصلفاً ومنعة، فلا يرى صواباً غير ما يراه، ولا هدى غير ما هو عليه، ولا من يفهم ويدرك عمق الأمور ومكنونات القضايا سواه، فهو الكل في الكل، إن أبدى أحد موظفيه رأياً قمعه وأسكته، وإن نوى ذلك الموظف المسكين اعتذاراً أو تلجلجت الكلمات في فمه ليشرح رؤيته ويقدم فكرته بأسلوب قد ينفع سيادة مديره نظر إليه شزراً، وأبدى من قسمات وجهه المحتقنة المتحفزة ما يوحي بأن على حاضري طاولة الاجتماع أن يهتموا، ويستمعوا إليه إذا تحدث، فما أتى بهم لكي يتحدثوا، وإنما لكي يسمعون! فما هم على مقاعدهم أمامه على طاولة الاجتماع سوى تلاميذ منصتين مستمعين بكل جوارحهم لما يتلفظ به من دُررٍ، وما ينطق به من حكمة، حتى ولو جاءت تلك الدرر، أو انداحت تلك الحكمة بكلمات مغرقة في المحلية أو الشعبية أو المناطقية أو السوقية أحياناً، فلا أحد بقادر على النظر إليه، بَلْه إبداء شيء من الإنكار لما يتلفظ به سعادة المدير المصون!
|
ومنهم من هو بالغ التعقيد، قلق من أن يقع في ما يمكن مؤاخذته به، فيطلع على كل كبيرة وصغيرة، ويقرأ كل شاردة وواردة، ويمضي على كل خطاب، ويؤشر على كل معاملة، مهما كان شأن ذلك الخطاب، أو أهمية هذه المعاملة، ولذا لن يفاجأ من يدخل عليه حين لا يراه وهو منحنٍ على كرسي بين أكوام المعاملات وأكداس الورق، ونظارته تصل إلى أرنبة أنفه، وعيناه تلتقيان في قلق الكلمة بعد الأخرى متتبعاً السطر تلو السطر بين قلمه كي لا يتجاوز سطراً لم يقرأه، ولن يعجب أحد موظفيه حين يجهد في البحث عن إحدى المعاملات أو الأوراق، وقد يستغرق هذا البحث أسابيع، وبعد تنظيف مكتب سعادته وترتيب أوراقه ورقة ورقة عن طريق مدير مكتبه فقط ولا أحد سواه يتبين كل خطاب أو معاملة أجهدت الموظفين المساكين!
|
هذا الصنف المعقد المتزمت المتردد القلق يجد كل اللذة في الإعادة والإفادة، فتبدأ المعاملة بورقة ثم تبدأ تنمو وتكبر وتتضخم مع دورة الأيام والمكاتب والتعليقات والإفادات حتى تغدو شيئاً آخر أشبه بالرواية البليدة المملة، أو التجميع العشوائي للأوراق في ملف قد يكتب عليه (سري للغاية) انطلاقاً من هيمنة الوسواس الخناس الذي يوحي للمدير دوماً بأن كل عمله لا بد أن يتصف بالسرية والتكتم حتى لو كان الخطاب يتصل بتأمين قطع أثاث للإدارة!
|
ومنهم الأناني المفرط في حب ذاته، الذي يعمل في حقيقة الأمر مديراً لنفسه لا مسؤولاً عن واجبات ومهمات مكلف بها، فيسيّر دفة العمل وفق مصالحه الخاصة، أين يذهب، ومتى، وكيف، وبأي مستوى، وأين يسكن، وبأي مستوى، وكم يأخذ، وكم يدخل رصيده لاحقاً من الأموال السائلة أو من التذاكر المفتوحة!
|
هذا المدير المفرط في أنانيته وفي نهمه على المكاسب الآنية والمنتظرة لا يرضى بأن يشاركه في غنائمه أحد ممن حوله؛ إلا إذا كان يرجو منه أو يتوقع أن يقدم له خدمات بصورة أو بأخرى!
|
ولن يكون قريباً منه محظياً برضاه من يجتهد في أداء عمله، ويتفانى في ما يوكل إليه، بل إن المحظيين المنعمين بالقرب من سعادته هم نفر من الموظفين الأذكياء الذين خبروا طبيعة مديرهم، ووقفوا عن يقين على ما يعجبه وما لا يعجبه، وما يرضيه وما يغضبه، فهو مثلاً لا يرتاح كثيراً لمن يبدي شيئاً من المطالب التي يحتاجها العمل، فيكفون عن ذلك، وهو أيضاً لا يلقي بالاً لمن أنجز وعمل وتفانى، بل لمن يستطيع أن يقلب كل ما عمله وتفانى فيه وأنجزه، بحيث يكون عملاً وإنجازاً للمدير نفسه وللإدارة كلها، ولا ذكر من قريب أو بعيد في الخطابات التي تبعث إلى مدير المدير، فأدرك الأذكياء اللعوبون تلك الغايات غير الشريفة وسخروا ما عملوا إن عملوا شيئاً لا لأنفسهم، بل لسعادته. وهو أيضاً لا يجد في نفسه قبولاً لمن يذهب ويجيء إلى الإدارة أياماً دون أن يكون في صف المنتظرين أو المودعين باشاً هاشاً مصبحاً أو ممسياً كلون من الولاء لسعادته والشعور بالامتنان والرضى والتقدير لمواهب وقدرات وحكمة ووعي وثقافة سعادته! ولذا، تجد هذا النفر المتذاكي اللعوب يحوم ويعوم دوماً بالقرب من مكتب مدير مكتب المدير لكي يرى وجهه ويسمع صوته شارة الحضور والشعور بالحبور وتحسس ما يطرأ أو يجد من أخبار المنافع والغنائم التي لا يسمح بتسربها مكتب المدير لا بمقدار معين ولنوعٍ محدد من النفر المرضي عنهم!
|
ومنهم صنف لا يريد أن يسمع كلمة (لدي رأي آخر)، بل إن من المقربين إليه الخفيفين على قلبه من لا يعرف كلمة (لا)، ذلك الذي عناه الشاعر الفرزدق حين مدح علياً بين الحسين بن علي رضي الله عنهم بقوله:
|
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته |
والبيت يعرفه والحل والحرم |
إلى أن قال وهو موضع الشاهد:
|
ما قال لا قط إلا في تشهده |
لولا التشهد كانت لاؤه نعم! |
فمن يقول لا، ولو على استحياء وحتى لو كانت ضرورة لا بد من قولها، وما خرجت إلا بعد استجماع شجاعة متوارية خائفة لن يكون لطيف المعشر، خفيف النفس، سمح السجية، مؤدباً، نبيهاً، مدركاً أساليب التعامل مع مديريه، على خلاف من يجيد كلمة (نعم) أو (سَمْ) أو (إبشر) أو ما تأمر به ينفذ حالاً، أو ما نرى إلا ما ترى، وأنت تأمر ونحن ننفذ!
|
هذا الصنف من المديرين في حقيقة الأمر من أكثرهم عتواً وغطرسة وفساداً، فقد يكرم ويهين، ويبعد ويقرب، ويرفع ويخفض بوحي من ذاته وما تمليه عليه منافعه، ورضاه أو سخطه، وخشيته وقلقه من صوت يعلو فوق صوته، أو رأي يؤخذ به غير رأيه. لذا نجد حوله طابوراً طويلاً من المدجَّنين المؤمِّنين الذين يسيرون معه في الركاب حيث سار، وحتى لو أوشك مركب الإدارة على الغرق غرقوا معه، فقد باعوا أنفسهم وعقولهم ومستقبلهم الوظيفي له، لأنه جعل على أعينهم غشاوة؛ فما يطرأ عليهم يوماً أنهم يمكن أن يعملوا بدونه، ولا أن يداروا بغير حكمته، أو تنعقد اجتماعاتهم دون حضور كلمته البهية!
|
ما كان يخيل إليهم يوماً أنه سيغادرهم، قد يدور في أذهانهم أنهم يغادرون هم مواقعهم، لكن لا يتصورون على الإطلاق أن يخلو مكتب سعادته من حضوره البهي وطغيان صوته الجهوري المقتصد، ورائحة عطره النفاذة التي يختلط بها بخور ما قبل صلاة الظهر!
|
الحق أن هذا المدير كان كريماً وسخياً ومعطاء، ولكن لنفر قليل جداً من أصدقائه القدامى، أو من مؤانسيه، أو من المنتمين إلى قريته الأولى الفقيرة المعدمة، فصلته مع هذا النفر القليل صلة لا يدرك هو ما كنهها أو معناها، ولكنه يجد نفسه دون أن يحيطوا به في غدواته وروحاته أشبه بالأعزل، فكأنه يستمد من إحاطتهم به بعض القوة المعنوية، أو أنه يتكئ عليهم في الصلابة والشموخ والقسوة أحياناً مع سواهم!
|
ولكن (سواهم) الطائعين الخاضعين المنتظرين مغمورون بكرمه، ومتخمون بولائمه وعزائمه ودعواته في مواقع ومواضع تتبدل حسب المناسبة، حيناً في الإدارة نفسها، وحيناً في أشهر الفنادق، وحيناً آخر في خلوات برية، ونادراً في منزله العامر، حيث لا يحظى بدخوله إلا صفوة الصفوة!
|
أما الصنف الذي يستحق الرثاء والشفقة من أصناف هؤلاء المديرين فهو المدير الضعيف، المسلوب الإرادة، المرتبك، المتوجس، المترقب حدثاً ما قد يقع في أية لحظة في محيط عمله فيفقد كل هذه الأبهة، وتتبخر من تحت أقدامه كل هذه السلطة، فلا يفتح له باب سيارة، ولا ينتظره مصعد، ولا يبخر له مكتب، ولا يوصل أبناءه سائق الإدارة، وزوجته السائق الثاني، وأغراض منزله السائق الثالث، ولا يجد مصدراً ثراً غنياً مثل ما هو متيسر له الآن، فاثنان من أبنائه موظفان لديه في وظيفة غير رسمية، وأبناء إخوته، وكثير من أبناء أصدقائه وقبيلته، وأبناء منطقته، فمن هذه الوظيفة التي أنعم الله بها عليه يستمد غناه ورفاهيته ونفقاته وسيارته الفارهة الممنوحة له، وسائقه الخاص، ورضى من حوله عنه، وطلبهم الدائم والملح للتواصل معه وإكرامه لما يشعرون به من فضل له عليهم!
|
هذا النوع من المديرين الضعفاء مهموم ببقاء كل هذا النعيم أو ذاك، من خلال نشوء قوة جديدة نامية في محيط إدارته، فعليه أن يعيدها إلى آخر الصفوف، فهذه القوة الناشئة قد تهدده يوماً ما، فعليه أن يدفنها في ظلمات الإقصاء والعمية والإلغاء، فلا يسمح لها بقول أو فعل أو حضور أو سفر أو مهمة أو تكليف قد تبدي فيه شيئاً من نباهة ونبوغ وتفوق فتلفت إليها الأنظار وتكون محل الإشادة والتقدير!
|
هذه الأصناف الغريبة الأطوار، المعيقة، المحبطة، الممانعة، المؤخرة، لا تعني أن في عالم الإدارة من يختلف عنهم ممن أشرت إليهم في الأسطر الأولى من هذه المقالة الوصفية.
|
ولولا وجود الجميل البهي المشرق المضيء البلسم لاندثرت هذه الدنيا من آماد بعيدة، ولما بنيت دول ونشأت حضارات وتصاعدت إنجازات.
|
وكما يقال (بالسيء يعرف الطيب، وبالشتاء يعرف الصيف، وبالفقر يعرف الغنى، وبالانفراج والسعة يعرف الضيق والحصر).
|
وكما يمر في حياة أي منا أصناف المديرين المرضى بذواتهم الذين لا يرون الحياة إلا من خلال مصالحهم المطمئنين إلى دوامهم واستقرارهم إلى الأبد، فإن طيفاً آخر يمر بنا كالنسمة الحلوة العابرة، يبقى شذاها عبقاً فواحاً، وأثرها عميقاً في النفس وفي المكان، لتكون هي المثل والقدوة والأمل الباسم المشرق الذي يدفع كآبة وظلمة وتجهم الأطياف الأخرى.
|
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام - كلية اللغة العربية |
|