يخشى كثير من القضاة تأثير وسائل الإعلام على قضاياهم، -لاسيما- قضايا الرأي العام. ولهذا تجد أن هناك -بعض القضاة- لا يتابعون وسائل الإعلام التي تتناول قضاياهم، خشية أن يصدر حكم
القضاء في اتجاه آخر. وهو ما يعتبرونه إساءة إلى القضاء، والتشكيك في نزاهته. كما يعتبرونه وسيلة ضغط على القضاة، فيكون سببا في عدم تحقق العدالة، وقد يزعزع ثقة الرأي العام فيهم. وهذا في ظني صحيح إلى حد ما، إذا كان التناول الإعلامي فيه مبالغة، ويساء استخدامه، أو في القضايا التي لها خلفيات سياسية. أما إذا كان التناول الإعلامي لتلك القضايا متوازنا، لا ينتهك المحظورات، فإن حرية النشر في وسائل الإعلام، كفلها ولاة الأمر للناس إذا كانت ضمن ضوابط النشر المعروفة. وهذا فيه تأكيد على ألا يشوب الأحكام القضائية سوء تطبيق يشوه صفاءها، ويظلم القيم الثابتة.
صحيح أن الفقرة السابعة من المادة التاسعة في نظام المطبوعات نصت على الشروط التي يجب مراعاتها عند النشر، ومنها: «أللاّ تفشى وقائع التحقيقات أو المحاكمات، إلا بعد الحصول على إذن من الجهة المختصة». وتجد كذلك في معظم دول العالم قوانين تجيز إصدار أحكام لقضايا محددة بعدم تناولها إعلاميا، لحساسية القضية -مثلا-. إلا أنني لا أعتقد أن هناك إشكالية في ضرورة تعامل المحاكم مع الجهات الإعلامية بكل شفافية، -لاسيما- ونحن نعيش عصر العولمة، والسرعة في تلقي المعلومة، مما يستلزم تأطير العلاقة بين الإعلام والأجهزة العدلية، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإن ممارسة الدور المهني المحايد، إضافة إلى الوعي والإلمام بأنظمة القضاء وفقا للأصول والضوابط المتبعة، مع الالتزام بأخلاقيات المهنة، للكشف عن الملابسات الحقيقة للقضية، بعيدا عن الأحكام المسبقة، وبعيدا عن الانسياق وراء مصالح أحد طرفي القضية، -مطالب مهمة-. وأعتقد أن وزارة العدل يهمها حرص وسائل الإعلام على تناول المواضيع ذات العلاقة بالشأن العدلي، خصوصا إذا كانت تمثل شأنا عاما. وهو ما يؤكده -المدير العام لإدارة الإعلام- والنشر حمد الحوشان، فيما يتعلق بالمواد الصحافية التي تتناول شأنا عدليا، مثل حكم شرعي، أو إجراء إداري: «بأن الوزارة يسعدها أن يكون الطرح متضمنا معلومات موثقة وصحيحة، ومن مصادرها.. مشدداً على تفهم العمل الإعلامي، ومشوقات السبق الصحافي، والتفرد بالنشر، والعثور على مصدر مدرك بالجوانب الشرعية، أو النظامية، حتى لا يتسبب ذلك في حدوث إشكالات عدة».
لا أحد ينكر أن الإعلام يشكل رأياً ضاغطاً على الهيئات القضائية في حدود النظام، فكما أنه يستطيع بث الوعي، ونقل الرأي والرأي الآخر، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن النصوص النظامية التي تحكم العلاقة بين القضاء والإعلام واضحة، وتتسم بالمرونة والسعة، أخذا في الاعتبار «مبدأ علانية الجلسات» الذي يكفل للجميع الإطلاع على سير المرافعة، وهو ما يجيز التحدث عنها، وإلا كان النص الوارد بشأن العلانية لا معنى له. فمثل هذه الإجراءات تستطيع أن تكشف التجاوزات إن وجدت، ومن ثم تعزيز المساءلة والمحاسبة، وإثراء الثقافة العدلية لدى أفراد المجتمع. ولذا فإن مقولة: «لا يجوز التناول الإعلامي في التعليق على الأحكام القضائية»، ليست على إطلاقها، وليس لها رصيد من المؤيد الموضوعي، أو التنظيمي. فالأحكام القضائية ليست نصوصا قرآنية، والقضاة في نهاية المطاف هم بشر يصيبون ويخطئون. وطالما التزم الناقد بالآداب والقواعد التي يجب اتباعها، يكون التعليق على تلك الأحكام القضائية جائزا شرعاً ونظاماً، وبشكل عام ومطلق، دون تخصيص، أو تقيد، أو استثناء، ودون أي تطاول، أو تجريح لهيبة القضاء، أو قضاتها بالتجريح والسب في من صدر الحكم عنهم، فالأصل هو الإباحة. ويكفي أن مصدرا مسؤولاً في وزارة العدل، أوضح -قبل أيام-: إن ما ورد بهذا الصدد من منع نشر القضايا المنظورة وفق نظام المطبوعات والنشر، يتعين فهمه وفقاً لمقاصد النظام الظاهرة، التي لا تحتاج لتأويل ولا تفسير. فالنصوص تؤخذ بمجموعها وصولاً لأهدافها الواضحة بتجرد تام، مشيراً إلى أن هذا التوجه معمول به في العديد من الدول، «كالولايات المتحدة الأمريكية والسويد والنمسا»، حيث يرون ترجيح المصلحة في فتح المجال للنشر، بحيث لا يتم المعاقبة على نشر المعلومات القضائية السرية، ما لم ترجع سريتها إلى سبب آخر، غير كونها قضائية. بل وصل الأمر في بعض الدول، مثل «أسبانيا» إلى العمل، على أنه لا يمكن استبعاد ممثلي وسائل الإعلام من حضور المحاكمات لأي سبب، باعتبار أن واجب الصحافة، هو: إعلام الجمهور بمجريات الأحداث.. مشيراً إلى أن الوزارة قد راعت في التصاميم المعدة لمباني المحاكم الجديدة، احتواءها على قاعات محاكمة واسعة ومهيأة، وذلك تفعيلا لإمكانية حضور جلسات التقاضي لغير المعنيين، تطبيقاً للنص النظامي المتعلق بعلانية الجلسات.
باحث في السياسة الشرعية
drsasq@gmail.com