هل نختارما نقرأ أم تختارنا الكتب؟ سؤال مشرع أمام جيل اكتهل وأوشك أن يشيخ؛ فما الذي يدفعه للاقتناء أو الاستغناء إلا استنباته في بيئة ثقافية ومجتمعية وجهته لما يأخذ وما يدع ؛ فتأسس عبر سلسلة من الاقتناعات المعرفية مهما حاول الهروب خارجها، ولعل الشعر - مثلا - كان الأهم في محفوظاتنا؛ سواء في المدرسة أو المركز أو حتى البيت، ويذكر أن والده - حفظه الله - أجرى بينه وبين أخته مسابقة داخلية ؛ فكلفه حفظ عشرين بيتا من أول معلقة زهير: (أمن أم أوفى دمنة لم تكلم)، وأخته عشرين بيتا من أول سينية البحتري: (صنت نفسي عما يدنس نفسي)، وفاز كلانا بذاكرة ما تزال تستدعي أبياتا من عيون الشعر العربي.
وقبل أن يكمل المرحلة الثانوية أعد أربعة بحوث عن الأئمة (أحمد بن حنبل وابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب) و(القائد صلاح الدين الأيوبي)، وحاز فيها المركز الأول ومكافأة قدرها « خمس مئة ريال «، وكنا نعد البحوث في منازلنا ثم نكتبها أمام لجنة مراقبة، وكان الشيخ محمد العثيمين - عليه رحمة الله - مكلفا من قبل المركز الصيفي بتصحيح وتقويم هذه البحوث ؛ ما يعطي انطباعا حول جديتها.
وخلال ذلك كانت جوائزنا للتفوق في المعهد العلمي والمركز الصيفي وكلية العلوم الاجتماعية كتبا في كتب؛ فعرفنا منها « مقدمة ابن خلدون وتاريخ الأدب العربي وظلال القرآن وجاهلية القرن العشرين « ومماثلاتها؛ ما أملى علينا توجها جادا، حتى إذا شئنا استرخاء وجدنا في « نظرات المنفلوطي وعبراته وروايات يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس وقصائد نزار قباني» بعض المتعة المستقطعة، وما مضى مجرد أمثلة غير عابرة تشير وتثير.
انفض معرض الكتاب، وكانت الأسئلة تتوالى عما يوصى بشرائه، والإجابة - لا شك - مرتبطة بميول وقدرات القارئ وأرضيته الثقافية، وإذ تهافت كثيرون على الروايات بقي صاحبكم متحسرا على كل دقيقة أضاعها مع رواية ابتاعها لأنها حديث الناس بعدما أسهم الرقيب برواجها، وهنا مبعث حيرته؛ فبم يجيب من سأله عما يشتري، وكيف يفرض ذائقته المتصادمة مع توجهات الزمن الجديد؟
هل كنا ومجايلونا أفضل؟ بالتأكيد: لا؛ فلنا زمننا ولهم أزمانهم، وسنبقى نتألم حين لا نستطيع إكمال بيت أو معرفة قائله أو عند سماع لحن كاتب وخطيب أو لعدم فهم مدلول نظرية ومحاكمة منطق ومساءلة قيمة، وسيشيح أبناؤنا أنظارهم عن وهم التلقي المعرفي بمعانقة الكتب الجادة ؛ ففي « الماك والبلاك والآي والفيس والمسن» ما يمتعهم ويشبعهم.
في معرض أبو ظبي الدولي للكتاب كان مرأى طلبة المدارس من مختلف الأعمار جميلا، وقيل: إن حكومتهم تعطي الطالب الجامعي مبلغا رمزيا ليشتري الكتب، وفي معرض الرياض تسود فئة الشباب مرتادي المعرض ؛ فهل هو الزمن يعيد دورته فيتصدر ما تقهقر أم هو البحث عن الممنوع بدليل أن بضع دور نشر هي المستأثرة بالإقبال والشراء؟
تطول الأسئلة، وتعلق الإجابات، وإذا أجزنا سيادة التقنية فما الذي يبرر استئثار بعض الروايات الممتلئة بالفراغ والعبث ليسومها المفلسون، وما أكثرهم وأكثرهن، وكأن البحتري يلمزهم حين « صان نفسه عما يدنسها « وكأن المسابقة البيتية قد حددت لصاحبكم موقعا مبكرا لم يستطع أن يبارحه.
الخطوة الأولى مسار.
Ibrturkia@gmail.com