Al Jazirah NewsPaper Saturday  13/03/2010 G Issue 13680
السبت 27 ربيع الأول 1431   العدد  13680
 
بين الكلمات
التوقيع الأخير
عبد العزيز السماري

 

آذن دخول الإنسان إلى عصر الكتابة وتدوين أفكاره من خلال النقوش والرموز ثم الحروف بدخول عصر جديد في التاريخ، كان من أهم ملامحه بدء مرحلة الصراع الفكري، فالكتابة أدخلت التاريخ البشري إلى مرحلة رصد التجارب الإنسانية، وإلى تعاقب فصولها في أطوار تختلف اتجاهاتها من حضارة إلى أخرى.

فلولا الكتابة لما تعلمنا أن حمورابي كان أول من وضع قانون مكتوب في التاريخ، وأن أول رواية تحكي قصة الصراع ما بين الإلهي والبشري دونته ملحمة جلجامش في ألواح طينية ومكتوبة بالخط المسماري..

ولما أدركنا سر المقولة الشهيرة لأرسطو (الفضيلة هي المعرفة)، ولما تعلمنا عن جذور وأصول الديموقراطية في التاريخ اليوناني القديم، ولما أيقنا أن العرب كان بمقدورهم الانتصار إذا اتحدوا كما حدث في يوم ذي قار قبل الإسلام..، ولولا الكتابة لما وصل إلينا الإرث الإسلامي العظيم، ولما اطلعنا على فصول الفقه والتاريخ الإسلامي، وعلى كتب ومؤلفات الأولين وأسباب صعود الحضارات ثم سقوطها.

أكتب هذه المقالة انتصاراً للكتاب، ولمعاناته في المجتمعات العربية، فقد كان في نظر السلطات الشبح الذي يهدد استقرار أحوال الناس، والبوابة التي تدخل من خلالها الأفكار الشريرة والخطر الذي يحمل بين صفحاته التهديد لأمن المجتمعات العربية...، جاءت معاناة الكتاب والمؤلفين في مختلف العصور الإنسانية علامة فارقة في التحولات السياسية الشهيرة، إذ دفع مؤلفون حياتهم كثمن لكتابة أفكارهم على صفحات كتاب، وأغلب الظن أن اغتيالهم أو استبعادهم أو منع كتبهم كان له السبب الأهم في انتشار أفكارهم واعتناقها من قِبل العامة.

فعلى سبيل المثال ألف الملحد ابن الرواندي شتى أصناف الكتب ضد الدين الإسلامي في منتصف العصر العباسي، وكان نشطاً في نشر أفكار اللا دينية، ويذكر التاريخ أنه لم يُحدث له مكروه ولم يلاحق بسبب أفكاره، وكانت نتيجة ذلك انتهاء أفكاره بمجرد رحيله، واختفاء كتبه، ولم يبق منها إلا عناوينها الشهيرة، والسبب أن المجتمع لم تتم استثارته بالقمع أو الاغتيال..

في حين راجت أفكار المفكر الإخواني الشهير سيد قطب، وتم توزيع مئات الآلاف من نسخ كتبه، بعد أن تم تنفيذ حكم الإعدام فيه في عهد عبدالناصر، مما أدخله في منزلة الشهيد، وذلك نتيجة لدفعه حياته ثمناً لأفكاره، وكان ذلك الموقف بمثابة الدافع الذي جعل من أفكاره في منزلة عالية بين الأجيال المكسورة أمام كبرياء العدو التاريخي، وكان ما حدث من ثورات وانفجارات في المجتمعات العربية والإسلامية برهاناً على انتشار آرائه المتطرفة ضد الواقع المنهزم..

كذلك وجدت أفكار ومؤلفات المفكر المنشق عبد الله القصيمي أبعاداً أخرى بمجرد تكفيره ومنع كتبه، فأصبح اقتناؤها وترديد أفكاره رمزاً للتمرد والفوضوية ضد التيار التقليدي في المجتمع، ويتضح من تاريخ الكتاب والأفكار أن اغتيال أصحاب هذه الكتب أو نفيهم دعوة للاطلاع على ما كتبوه من مؤلفات، ولعلهم آخرهم الكاتب نصر حامد أبوزيد، الذي حُكم عليه بالردة والتفريق بينه وبين زوجته، فكان ذلك بمثابة الدعاية الإعلامية لشراء مؤلفاته ونشر أفكاره.

في الماضي كانت الكتب تدخل من المنافذ الرسمية مما يسهل من عملية الرقابة عليها، لكن التقنية الحديثة اخترقت الجدران والسجون والعقول المتحجرة بعد أن أدخلت الممنوع إلى الداخل دون ورق أو غلاف أو حتى اسم مؤلف، فكان الخيار الصعب في أن تتم المصالحة مع الكتاب، لتصبح معارض الكتاب جزءاً من زينة وديكور مجالس الثقافة العربية، لكنها في نظر الكثير غدت مرحلة متأخرة خارج زمن الكتاب التاريخي فقد تحررت الأفكار الجريئة من حبر الأقلام، ثم توالى هروبها من صفحات الأوراق إلى نسيج الشبكة العنكبوتية.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد