من رحمة الله عز وجل الواسعة بعباده أنه علمهم الكلام والبيان والإفصاح عما في نفوسهم من مخاطبات وحاجات،قال تعالى: {الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ.عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}.. فابتدأ الله تعالى باسمه العظيم الذي لا يشاركه معه غيره لا ذاتاً ولا صفة، وهو الرحمن،ثم ابتدأ بتعداد متعلقات هذا الاسم العظيم وما يتضمنه من رحمة بعباده، فقال {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} ثم {خَلَقَ الْإِنسَانَ} ثم {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}، وقد أجاب المفسرون - رحمهم الله - عن الحكمة في الابتداء بتعليم القرآن وأنه سبق خلق الإنسان،مع إن الأصل تقديم خلق الإنسان الذي أنزل عليه القرآن ؟
وهنا حكمة فريدة ،ولطيفة جليلة:وهي أن تعلم القرآن وتعليمه هو الغاية من خلق الإنسان، فالله تعالى لم يخلق الإنسان عبثا، حاشاه سبحانه وتعالى، وإنما خلقه لعبادته، والإيمان به وبكتابه، والعمل بمافي كتابه من أوامر وزواجر، ثم قال تعالى:{عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} فجعل لكل أمة من الأمم لغة لبيانها ،تسطر بها ملاحمها وحضارتها، وتبرز بها مكنوناتها،وجعلها قابلة للفهم بين أفرادها بهذه الخاصية العظيمة وهي الكلام، وجعل للكلام البشري أدوات وآلات تخرج بحركاتها الحروف لتكون أصواتا متناسقة، ذات رنين جميل ،يتلقاه السامع، فيفهم المراد من كلام المخاطب بكل سهولة وسرعة.
ومن العجائب في خلق الإنسان أنه يخرج طفلا لا يتكلم، فيبدأ عند ولادته بصرخة تنبعث منها الدلالة على حياته، ثم يبدأ بتعلم الكلام حرفا حرفا، ثم كلمة كلمة ،حتى يصيغ الكلمات جملا مفيدة، وهكذا تبدأ دورة الكلام عند كل إنسان.
ويكبر الإنسان، وتكبر معه تلك المحصلة اللغوية التي اكتسبها وتعلمها رويدا رويدا، ويتناسى في هذه الدورة الزمنية من حياته، المنعم عليه بهذه النعمة وهي تعليم البيان، فيبدأ بنسيان ما عليه من واجب الشكر، وتسخير هذه الطاقة التي آتاه الله إياها في العبث واللهو والسخف، حتى وصل هذا الإنسان الطاغية المتجبر إلى حد الاستهزاء بذات الله - تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً - فلا يجد مصدراً لرزقه إلا هذا الهراء الذي يتكلم به، ويهذي به في الجرائد والصحف والمجلات ،ثم بعد ذلك يصيغها قصصاً وروايات.
والأعجب من كل ذلك حينما يستأجر بعض المتكلمين ليدافعوا عن هذا الهراء الباطل مدعين الحرية الأدبية، وحرية التعبير، ويا ليت حرياتهم قيدت بالأغلال، وألسنتهم بالأكبال، ولم يتكلموا ،فيقوموا للباطل مدافعين ولأصحابه مادحين،ولسخافاتهم مطبلين وناشرين، وهكذا الباطل حين ينتفش، فيغتر بنفسه، ويظن أنه التقدمية والحضارة، يصيغها بلسانه شتائما وهذيانا وشبهات.
فالكلمة حصان الإنسان يركبها حقا وباطلا ،فإذا ركبها بالحق أجاد وأثمر، وأتى بالنور ساطعا واضحا لكل ذي عينين ،وكانت كلمته خادما مطيعا له في الدنيا والآخرة، أما إذا اختار الباطل،فهو والله الظلمات والجهل والسخف، مهما تعددت ألوانه، وتلبست مفاهيمه، وقدموا لها الولائم البحرية أو القصائد الشعرية، هي والله حصانهم إلى النار، كما قال صلى الله عليه وسلم:(وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الإنسان ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفا).
فهل يعتبر الإنسان بما أنعم الله عليه من النعم، منها هذه النعمة الجليلة وهي: البيان،فيمسك زمام لسانه من أن يكون مستأجرا للهوى، ونربي أنفسنا وذرياتنا على أن الذي علمنا البيان، إذا لم نسخره في طاعته وعبادته، قادر على أن يسلبها منا. وحين ذاك لا ينفع الندم في الدنيا والآخرة.
* أستاذ مشارك في التفسير وعلوم القرآن
جامعة الملك فيصل