الرياض - (الجزيرة) :
حث فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن صالح الحميد عضو المحكمة العليا.. المسلمين على الصبر عند الشدائد والمحن.. حيث إن الصبر هو الخلق الذي نحتاج إليه لأنه في أحلك أيامها وأشدها بلاء، وهو الطريق إلى الله إذا اشتد في الظلم، وصدعت الأمواج العاتية شواطئ الحياة الآمنة.
جاء ذلك في مستهل حديث لفضيلته عن: (الصبر، مفهومه، وأنواعه، وفضله، ودوافع الصبر ووسائله، وجزاء الصابرين، وقال: إن الصبر هو حبس النفس على ما تكره وهو قمة المجاهدة، ولذا قرن الله سبحانه وتعالى الصبر على الشدائد بالجهاد في سبيله، لأن جهاد الإنسان عدوه من داخله (وهو نفسه) لا يقل ضراوة عن جهاده عدوه من خارجها، فقال - عزوجل -: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ? وعن صهيب بن سنان رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: عجباً لأمر المؤمن ؛ إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له «.
ثم تحدث فضيلته عن أنواع الصبر فقال: إنها ثلاثة صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على ابتلاء الله، ولعل أعظم هذه الثلاثة هو الصبر على طاعة الله ؛ فإنه صبر الرضا والاختيار، لا صبر الإكراه والإجبار، وعظيم هو فرق مابين الأمر المرضي المختار على نزاع النفس فيه، والأمر الواقع الذي لابد أن يقبل، أما الصبر عن المعصية هو مجاهدة النفس الأمارة بالسوء على ماتحبه وتهواه، وأسرها في حمى الطاعة والإيمان قبل أن تأسرها الذنوب فيجب لها الخذلان، والصبر على ابتلاء الله عز وجل هو الذي حكى عنه ربنا في القرآن قائلاً - عز من قائل -: ?وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ?
وقال: ?وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ?، فيا أيها الجزوع.. يا أيها الهلوع.
بعد ذلك استعرض الشيخ الحميد فضل الصبر، وقال: إن الصبر هو قمة العطاء الإلهي شمولاً واتساعاً، وهو من أعظم نعم الله عز وجل على عبده، مصداق ذلك ما روي في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى إذا نفد ما عنده قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر».
وواصل فضيلته قائلاً: ومن فضائل الصبر أنه باب الإمامة في الدين، قال - عز وجل -:?وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ?، فجعل - عز وجل - الإمامة في الدين مترتبة على الصبر واليقين، وما الصبر من اليقين إلا كالنبتة الغضة الناضرة من الأرض الطيبة، وهذا رسولنا وإمامنا - صلى الله عليه وسلم - قضى في سبيل دعوته في مكة ثلاثة عشر حولا وهو يلاقي نفوساً طاغية، وألسنة ساخرة، وأيديا باطشة، فأهين وأهين أصحابه، واستضعف واستضعف من معه، كان هينا على الله عز وجل أن يصرف عنه الأذى جملة، ولكنها سنة الابتلاء يؤخذ بها الرسول الأكرم وصحبه، يستبين صبرهم، ويعظم عند الله أجرهم، وليتعلم دعاة الإصلاح كيف يقتحمون الشدائد ويصبرون على ما يلاقون من الأذى - صغيراً كان أم كبيراً - بيقين ثابت وإيمان راسخ.
وعن دوافع الصبر ووسائله: قال الشيخ الحميد إن أول دوافع الصبر التقوى واليقين، فبهما يستضيء القلب، ويخلد إلى واحة ربه - عزوجل - آمناً مطمئناً، يدافع كروبه بتقوى الله، ويواجه بلاءاته بيقين في فرج الله، ولذلك خص الرسول - صلى الله عليه وسلم - فضيلة الصبر بما كان منبعه اليقين والتقوى، فقال - فيما رواه الشيخان عن أنس رضي الله عنه -: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) ولا يكون الصبر عند الصدمة الأولى إلا مع ثبات القلب على اليقين، واستضاءته بنور التقوى، ومن وسائل الصبر المعينة عليه.. التفكر في عاقبته، فإن من علم عاقبة الصبر وجزاءه، وما وعد الله به الصابرين من التعجيل بالفرج في الدنيا، والثواب العظيم في الآخرة، على أن الصبر أرأف من الجزع، وأن الأمل أعلى درجات من القنوط، وأن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأنه على قدر التعب تكون الراحة.
وقال فضيلته فليعلم المرء أن الله - عز وجل - مخلف له جزاء ما تعزى وصبر، ولذلك كان الصبر من عزم الأمور، قال - عز وجل -:?لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ?، وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: « من يرد الله به خيراً يصب منهُ « وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله عز وجل وما عليه خطيئة»، ومن الوسائل المعينة على الصبر أيضاً الدعاء والتضرع إلى الله - عزوجل -، فقد قال - عز وجل -: ?وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ?، وروى الحاكم في المستدرك عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل، ومما لاينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان - أي: يصطرعان - إلى يوم القيامة)، ليدع كل مصاب، فإن باب الله أوسع الأبواب، ليدع كل مبتلى، فإن البلية مهما عظمت ومهما جلت فلن تضاهي الدعاء عظمة، ولن تقارب رحمة الله جلالاً.
بعد ذلك تحدث فضيلة الشيخ عبدالعزيز الحميد عن جزاء الصابرين، وقال: فما أعظمه من جزاء، وما أوسعه من عطاء، قال عز وجل: ?الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ?، ومن جزاء الصابرين تكفير الخطايا والذنوب، فقد روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري وعن أبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه «، وكما قال: « حتى يلقى الله عز وجل وما عليه خطيئة «.
وواصل فضيلته قائلاً: ومن جزاء الصابرين أنهم يوفون أجورهم يوم القيامة بغير حساب، فقد قال عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}?، أما أعظم جزاء للصبر فهو الجنة.. مبتغى الأولين والآخرين، ومنزل الأنبياء والشهداء والصديقين والصالحين، حيث النعيم الذي لا شقاء معه، والعيش الذي لاتنغيص فيه، فهنيئاً لكم أيها الصابرون بجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين. ?سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار?، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: « يقول الله تعالى: « ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبهُ إلا الجنة».
وفي نهاية حديثة سأل فضيلة الشيخ عبدالعزيز الحميد الله - عز وجل - أن يعيننا على الصبر، وأن يحلينا بالصبر، وأن يرفع عنا الكرب وعن جميع المسلمين المستضعفين في بقاع الأرض إنه ولي ذلك والقادر عليه.