أعداء الوطن ليس لهم حلم، ولا شجر مثمر، ولا طعم، ولا ملح، ولا رذاذ مطر، ولا عذوبة، ولا تفرد، وليس لهم وردة حمراء، ولا نوم فراشة، ولا منائر مضاءة، ولا نجوم عالية، ولا بهجة حية، ولا نفخة هواء نقي.. إنهم يشبهون (اللثغة) في اللسان والأخرى في النسغ، الحقد في صدورهم صاغ عقداً من خرزات سوداء، ليس لهم (سدرات) يانعة أو حقول قمع أو مزرعة عنب أو نباتات أنيقة، ذهبوا من الحلم إلى المكر، وأوغلوا في رحلة البحث والتقصي، يستلقون على سرر باردة ثم يستحضرون تراتيل الغناء المزيف وقرع الطبول ومناديل تتطاير مثل الأشرعة، يروحون ويجيئون في غرفهم الصاخبة، مليئين هم بالملل وبالضجر وبالندب الرمادية، غيومهم هاربة تتلفت بدهشة وارتياب، ليلهم أخرس ونوافذهم ساكنة وعيونهم تراقب الذي يجيء ولا يجيء، الفرح لا يليق بهم؛ لأنهم مغرمون بالفشل والنكوص، يدخلون من رماد إلى رماد، يعشقون الشفق ليس كحالة شعرية، لكن كحالة غياب وموت، ليس لهم اشتهاء سوسنة، ولا عطر، ولا نسائم هادئة، ولا تضاريس ود، وحيدون هم من أول العتمة لآخر العتمة، الشوارع المضاءة تنكرهم، يسيرون بتبعثر حد أن الأرض تنكفئ على وجوههم بقوه الارتطام، المصابيح منطفئة في عيونهم العمياء، والنهارات مجعدة، والليالي عندهم لها عزلة فاجعة، لهم عفونة مزبلة ومرض يابس ومنظر رأس مسلوخ، دفعوا بالضوء إلى الهاوية؛ حتى صاروا مثل أقبية وسراديب ملوثة، لا يعرفون التوهج، ولا الندى، ولا البياض الذي يرشق بالرغبة، لهم طرق ملتوية، وشرور لاهبة، وأرواح متعبة، وشموع مطفأة، وأمسيات مثخنة بالجراح والمجون، هم دائماً خلف المرايا يبارزون وحدتهم دون أن يمسحوا ضبابهم الذي يدب على وجوههم الشاحبة، يغفون على فرش الحسد، تستل النار من تحت آباطهم؛ لأنهم هم مَن أوقد النار بخشب حاسرة، تنداح في بالهم صخب ضاع في سلة معاركهم الخاسرة، محاريثهم نبشت قطعاً من الصدأ، وعصيانهم التي لوحوها تكسرت على الصخرة الهادرة، تفاحهم المسروق تبعثر، وخيولهم السقيمة غادرت حطام المكان، القمر الذي علقوه على نوافذهم ساوره الحزن حين راودتهم أنفسهم أهزوجة البهتان، وحين ارتبك فيهم الواقع، وحين غادر عقولهم الدوران، وتكور الظلم حول عيونهم الواجفة، بذورهم النابتة في جوف التراب لا تتمدد ولا تستطيل ولا تنتفض نحو الأعلى، اندفاعاتهم الهائجة لا تصل حد السحاب، سيقانهم المتجاورة تتمايل بعنف في أماكنها تحاول الصعود، راكضون هم يحاولون الاستدارة حول الساحة، لكن الساحة واقفة بثبات وهم يرتجفون، يحلمون في أفق مضيء تحت موجة عارمة، لكن ضوء المكان بدد أحلامهم، وفجر ضوء المكان حول بيارقهم العتيقة، يصبون هم إلى ما وراء المحال مثل الذي يصبو للماء والنار في آن، متدثرين بالعزلة، ومتهدجين بغناء لا يسمعه أحد، قلوبهم صاخبة، وليس لهم فاكهة حب، ولا ألحان ولا أناشيد حنين، لهم أنات متقطعة، وعبارات مبتورة، وأقلام لا تنزف أحلاماً، وأصوات لا تنضح بالحب ولا بالرياحين، وليس لهم صورة ولا اسم ولا عناوين، فاحت رائحة العفن منهم، وتحير في أفقهم الشاحب خيوط الدخان، لا يعرفون كيف يمشطون أحلامهم، ولا يهتمون بالشمس، ولا يعرفون التحدث إلى الزهور، لكنهم يعرفون كيف يحولون الخراب والرماد إلى حقيقة أبدية، الرياح عندهم لها أنياب وصفير تصم الحواس، لهم شكل الوطاويط، ولون الخرافة، وعتمة التأويل، وقبح الجريمة، لا قامات عالية لهم لكي يبصروا النجم الزاحف؛ حتى ظنوا الصباح ليلاً، لهم طعم وشاية، ورائحة دم، ومرارة كمد، وأشجار من الخطايا، ليس لهم بياض يشع، ولهم زفير، وحتى كلامهم ليس له بهاء، وله نيران، إنهم أرواح ساخرة يهدرون بهاء المدينة، ويسفكون ملاءة الخيبة، ويسقون حدائق العشب بمطر أسود، ويزرعون الأرصفة بهدير الغبار الأحمر، لكن وطني الكبير سيقشط الخراب؛ ليترقق نبض الحياة، وسيكسر ضوضاء الزيف الأصفر، وسيلمع المكان، ويشعل الفوانيس، وسيرشق العاصفة، ويهتف للماء؛ حتى المصب، وسيترك البيض الفاسد في السلة عند ركن قصي ليقتات منه الأعداء المصابون بالطاعون وبالخراب وبالكدمات والجحيم؛ لأنهم ارتضوا الجنون والخصام والزحام وأخفوا الوديعة في الرياح على عجل، ولم يلقوا على وطني السلام، ولأنهم كان يشغلهم الخيار، ويسبقهم الجواب، ولم يعرفوا بأن وطني عصي عن الرضاع، وعصي عن الفطام، ولأن لتشابك خطى وطني انسجاماً، ولغيمه فوق البحر رعداً يسبقه البريق، ولأنه احتوانا تحت ثياب المنام؛ فعلام أسكت؛ ليحتفل الوطاويط برقصه خلف الظلام، لن ارتضي جنونهم ولان ابه لفجورهم والكلام، حتماً سأشد حروفي إليهم حرائق في الصحو وقبل المنام.
ramadanalanezi@hotmail.com