ألا ترون أن بعضا منا قد أسرف في النقد غير البناء، وكأنه يرغب في قول شيء ليذكر به، أو ليصرف الاهتمام بأمرمهم إلى أمر لا يسمن ولا يغني من جوع، فأصبح بعضهم يقول لمجرد القول، ويتقدم بعد كل فترة خطوة في نهجه الذي ارتضاه، وعندما لا يجد من ينصحه أو ينهاه، يستمر حتى يخرج عن الحق والنقد البناء إلى تجاوز ما لا يجب تجاوزه. كم نحن قادرون على أن ننفذ من خلال الكلمة إلى أبواب الإصلاح المختلفة ونكتب ما يفيد فلدينا من المواضيع التي يمكن طرقها داخلياً وخارجياً الكثير، غير أن كلمة الحق المطروحة في اتزان تحقق الغاية، وتبين الحقيقة، وتجعل المرء أكثر قرباً من مجتمعة وأكثر نفعاً. في العصر الجاهلي وما تلاه من عصور في القرون الإسلامية الأولى كان الشعر أداة فاعلة لكل أوجه النقد المتعددة. كان الشاعر يمدح ويتملق وهو يعلم أنه كاذب، لكنها وسيلة استرزاق درج عليها الكثير من الشعراء، فهذه صنعتهم ومصدر رزقهم، ومنهم من كان يقول الشعر النقدي الحكيم الذي لا يخرج عن الأهداف، شعراً يبحث صاحبه عن الصواب أينما كان، ويقدم النصيحة بأسلوب شعري رصين فيسمع صوته وربما يستجاب نداؤه، كما هي حال الإمام الشافعي. وهناك شعراء هجاؤون يبحثون عن المصائب، ويترصدون الأخطاء، ويبالغون في الطرح، وربما يفترون، ويلصقون بغيرهم ما ليس فيهم. تحتاج الأمم إلى النقد، ويحتاج الناس أن يروا في الناقد نهجاً سليماً بفعله ليضرب مثلاً بذاته فيما يقول، وإلا لماذا يطلب من غيره تبني وجهة نظره في الوقت الذي لا يتبناها هو، مع إمكانه ذلك، ولله در الشاعر حيث يقول:
|
أفي كل وادٍ شاعر ومطيب |
وفي كل ناد منبر وخطيب؟ |
نعم كثر الأقوام قلة ناقد |
لهم فتساوى مخطئ ومصيب |
لا نريد أن يتساوى المخطئ والمصيب، ولا نرغب أن يختلط الغث والسمين، نريد مشارب متعددة ننهل منها ماء زلالاً صافياً لنفيد أنفسنا ونفيد غيرنا، نحتاج إلى من يقوّم بنقده، ويوضح بقوله، ويظهر الحق دون تجريح أو خروج عن جادة الصواب.
|
الكلمة في هذا الزمان، لها سحر البيان، وبها نصل إلى العالم بعد أن كثرت وسائل الاتصال وتقاربت الدول والأقطار، فلا بد لنا من مراعاة الحق في القول حتى لا ينقل غيرنا عنا غير الحق، ونظلم أنفسنا، ويقول الآخرون هذا قولهم بأفواههم، وكأننا نعيش في عالم يختلف عن العالم الآخر.
|
نحن نعيش على أسس وقواعد حفظها لنا الإسلام، أجدر بنا أن نتمسك بها ونأخذها على وجهها الصحيح، حتى لا نظلم الإسلام بما نفعل، وحتى لا نظلم تراثنا العربي بما نسلك.
|
العالم كان يتندر على البعض فيما كان يفعل، وأصبح الآن يتندر على الكثير مما نقول ونفعل، ونحن في حاجة إلى أن تكون الكلمة عوناً لنا لا عوناً علينا، وأن تكون مرآة صادقة لواقعنا دون تشويه وواقعنا فيه من الخير الكثير مع ما يعتريه من أخطاء لا بد من تصحيحها بالكلمة الطيبة. وأذكر أنني قرأت ما معناه في كتاب الإحاطة في أخبار غرناطة للسان الدين بن الخطيب، وكذا كتاب الكتيبة الكافية للمؤلف ذاته أن هناك رجلاً يقال له ابن برطال، كان من بيت أصالة، عفيفاً له سمت، غير أنه قليل المعرفة، محدود العلم، تولى القضاء في بلده ثم أصبح قاضياً في غرناطة، إضافة إلى الإمامة والخطابة بالجامع، فقال فيه أحد الشعراء:
|
إن تقديم ابن برطال دعا |
طالب العلم إلى ترك الطلب |
حسبوا الأشياء عن أسبابها |
فإذا الأشياء عن غير سبب |
ونتمنى ألا يتقدم للنقد إلا من يحسنه، ويدرك مراميه، ويصلح ذاته، وأختمها بقول امرئ القيس:
|
إذا المرء لم يخزنْ عليه لسانه |
فليس على شيء سواه بخزّان |
واليوم حلّ البيان مكان اللسان، فعلينا حفظ القلم كما نحفظ اللسان.
|
|