Al Jazirah NewsPaper Tuesday  09/03/2010 G Issue 13676
الثلاثاء 23 ربيع الأول 1431   العدد  13676
 

شعراء طواهم التشاؤم ونشرهم الإبداع

 

التشاؤم في الشعر العربي ظاهرة تستحق الوقوف عندها؛ لاكتشاف أسرار الشعراء، وسبر أغوار أعماقهم، التي أفرزت هذه النظرة التشاؤمية عندهم، خاصة مَنْ استولت عليه، واستحوذت على الكثير من شعره.

إنَّ عالم الشعر عالم مليء بالخفايا، تتجلى للدارس حينما يغوص فيها أسرارٌ باطنة لم تكن بارزة للعيان، ولكنها قد تظهر أحياناً عبر إشارات عابرة، وظواهر في النص، تهدي من يتتبَّعها إلى معرفتها.

كثيرٌ أولئك الشعراء الذين نقرأ التشاؤم في شعرهم، ولكنهم يختلفون في مقداره؛ فمنهم من لا نجد عنده إلا قليلاً منه؛ ويكون وجوده خاضعًا لظرف معيّن عابر، ومنهم من نراه غالباً على شعره وشعوره؛ وهذا لا ريب أنه ناتجٌ من ظروف نفسية متراكمة.

إنَّ من أولئك الشعراء الذين تدثروا بدثار التشاؤم؛ فنَضَحَت به مشاعرهم، واصطبغت به أشعارهم - وإن كانت تختلف دوافعه عند كل واحد منهم -، ثلاثة من شعراء العصر الحديث، قد استوحشوا من مخالطة الناس، ونُسوا باعتزالهم، ومنادمة شعرهم، وهم: الشاعر الكويتي فهد العسكر، والشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي، والشاعر السعودي حمد الحجي.

عندما نقرأ هذه الأبيات لأحمد الصافي النجفي التي يقول فيها:

أتسعى لإصلاح هذا البشرْ

وقد خُلِقوا من بلاءٍ وشرْ؟

إذا كان يُعييكَ رفعُ العيوبِ

فداوِ العيوب بغضِّ النظرْ

وقوله:

لا تحذر الحيوان في عدوانِهِ

واحذر لسانَ الشر من إنسانِهِ

رفس البغال برِجْلِها لك هيِّنٌ

في جنب بغلٍ رافسٍ بلسانِهِِ

أقول: عندما نقرأ هذه الأبيات نجدها تفوح باليأس من إصلاح الناس، وبالتبرم من أخلاقهم السيئة، التي جعلت الشاعر يَقرِنها بأخلاق الحيوان، بل إنه يُفضِّل أخلاق الحيوان عليها.

ويتضح التشاؤم في الأبيات الآتية للصافي أكثر جلاء منه في الأبيات السابقة؛ إذ يقول:

لا شيءَ يُرضيني ولا أرضيهِ

الكون لي خصمٌ بما يحويهِ

يسعى لإبعادي فما يسطيعهُ

فأنا برغم الكون باقٍ فيهِ

كم رام يُلقيني إلى وادي الفنا

عبثا، وكم حاولتُ أن ألقيهِ

متعانقَينِ تصارعًا، وتخالنا

أخوَينِ، كلٌّ مُمسِكٌ بأخيهِ

فكأن هذا الكون ليس أبي، فلم

أرَ لي به شبهًا ولا ببنيهِ

قد تهتُ فيه ولم أبارح مسكني

فكأنني من مسكني في تيهِ

إنَّ هذه الأبيات التي عَنْون لها الشاعر ب»الخصم الملازم» لتوجز لنا حال الشاعر مع مجتمعه المحيط به، وتوضح لنا نظرته تجاهه. وإنني هنا أعلل هذه المشاعر المضطربة المضطرمة التي نحسُّ بها في هذه الأبيات بغربة الشاعر الوطنية والفكرية؛ فالشاعر قد تغرب عن موطنه (العراق)؛ فقد ذهب إلى إيران، ومكث فيها زمناً، ثم عاد إلى العراق، وبعد ذلك انتقل إلى دمشق ثم إلى لبنان، وهكذا عاش حياته متنقلاً، وكأني به يختزل هذه التجربة بقوله:

يسعى لإبعادي فما يسطيعه

فأنا برغم الكون باقٍ فيه

أما غربته الفكرية فقد كان الشاعر يحب العزلة والوحدة ولا يُحبِّذ مخالطة الناس، بل كان دائم التفكير، لا يأبه بمن حوله، كما يقول عن نفسه:

تعود بيَ الذكرى لعهد طفولتي

فأبصر طفلاً في التلاميذ وادعا

به وحشة مستغرق في خياله

تخال إذا كلمتَه ليس سامعا

ويترجم غربته الفكرية في هاتيك الأبيات بقوله:

قد تهت فيه ولم أبارح مسكني

فكأنني من مسكني في تيه

وغالباً ما نجد أن الشعراء يرون أنهم غرباء في مجتمعاتهم وحياتهم، خاصة المتشائمين منهم؛ وذلك لأن الشاعر يحس بأنه مختلف عن غيره في شعوره وتفكيره. وكما وجدنا هذه النظرة عند أحمد الصافي نجدها كذلك عند صاحبيه؛ فلننظر إلى حمد الحجي الذي يقول:

إن نظرتُ الجمال غضًّا طريًّا

يتجلى في المنظر الخلابِ

لاح لي أسود المصير كمسو

دِّ الليالي مكشر الأنيابِ

فرأيت الجمال يُطوى بأكفانٍ

ويَبْلى ممزقَ الأسلابِ

وإذا ما الحياة قلبيَ يوما

فرَّحته بزورة الأحبابِ

أيقنت نفسي الفراق طويلا

ورأيتُ الوصال مثل السرابِ

ثم يقول بعد ذلك:

هكذا كنت في حياتي عُجابًا

يا لقلبي من هول ذاك العُجابِ

إنك حينما تقرأ هذه الأبيات، بل القصيدة كاملة، لتذوب شفقة على الشاعر، وما آلت به حاله التشاؤمية؛ إذ أنتجت لنا هذه الأبيات التي تعبر عن اضطراب تفكير الشاعر، حتى إنَّ هذا الاضطراب قد أثَّر على التراكيب؛ فاضطربت كما في قوله:

وإذا ما الحياة قلبيَ يوما

فرَّحته بزورة الأحباب

فلا يخفى على القارئ الحصيف ما أحدثه التقديم والتأخير من خلل في البيت. ولكني لا ألوم الشاعر؛ لأنه كان ينقل لنا شعوراً مضطرباً كئيباً.

وإذا انتقلنا إلى الشاعر فهد العسكر ألفيناه مشتركاً مع صاحبيه في هذه النظرة؛ فهو يقول:

إنَّ شدو الأوتار يشجي فؤادي

وتثير الأسى كؤوس الشرابِ

ومَنْ قرأ شعر فهد العسكر يعرف إكثاره من وصف الخمر، بل دعوته لشربها؛ لأنه يجد فيها لذته وجلاء أحزانه - والعياذ بالله - كما يقول:

واترع لنفسك أخرى يا حبيبيَ من

ما كان أطيبَها صِرفا وأعذبَها

خمر العراق ودع صهباء إيرانِ

ممزوجة، فاسقنيها واجْلُ أحزاني

وغير هذين البيتين كثير، لكنه في البيت الذي أوردته قبل يؤكد لنا أن كؤوس الشراب تثير حزنه وأساه، وهذا فيه تناقض، وسبب هذا التناقض - في نظري - حالته النفسية غير المستقرة التي كان يعيشها الشاعر، وإحساسه بالغربة الروحية؛ فهو يقول:

أنا في هذه الحياة غريبٌ

بائسٌ تائهٌ وراء الضبابِ

وقد ولَّد إحساسه بالغربة تناقضاً في قوله:

أنا في الحب يا رفاقي شقيٌّ

وسعيدٌ وافرحتي واكتئابي

ولنستمع إليه يسرد لنا شكواه وتشاؤمه من زمنه؛ إذ يقول:

يا صحابي ويلاه اِستأسد الثعلب (م)

واستنعَجَتْ أسودُ الغابِ

والهزبر الهصور أصبح كبشا

خاضعا رغم أنفه للكلابِ

وقضى نحبه هزاريَ لما

أصبح الروض مسرحاً للغرابِ

وجناح الحياة مني مهيضٌ

وجوادي في حَلبة السبق كابِ

يا صحابي والدهر قد رفع العب

دَ وسامَ الأحرارَ سوء العذابِ

بعدما طارد الرؤوس وأقصا

هم وغصَّ الميدان بالأذنابِ

وهنا يتضح لنا سرُّ غربة الشاعر عندما قال: «أنا في هذه الحياة غريب»؛ فهو يعدّ نفسه من الأحرار الذين ذاقوا سوء العذاب، ومن الرؤوس التي أُقصيت عن الميدان.

ويكاد يتفق الشعراء الذين ينقمون على أهل زمانهم من تجاهلهم، وإعلاء شأن مَنْ يرون أنه أقلّ منهم قدراً، أقول: يكاد يتفق أولئك في نظرتهم التشاؤمية التي ولَّدها الإحباط؛ فها نحن نجد حمد الحجي يوافق العسكر في هذه النظرة وإن اختلف الأسلوب:

أأبقى على مرِّ الجديدين في جوى

ويسعد أقوامٌ وهم نُظرائي

ألستُ أخاهم قد فطرنا سويَّة

فكيف أتاني في الحياة شقائي؟

أرى خَلقهمْ مثلي وخَلقيَ مثلهم

وما قصَّرت بي همتي وذكائي

يسيرون في درب الحياة ضواحكا

على حينِ دمعي ابتلَّ منه ردائي؟

ويستمر في عقد المقارنة بينه وبينهم، ثم يخلص بعد ذلك إلى بيان سبب سعادتهم وشقائه؛ فيقول:

لقد نظروا في الكون نظرة عابر

يمرُّ على الأشياء دون عناءِ

وأصبحتُ في هذي الحياة مفكرًا

فجانبتُ فيها لذتي وهنائي

ومن يُطِل التفكيرَ يوما بما أرى

من الناس لم يرتحْ ونال جزائي

ثم ينقل لنا الشاعر صورة، ويبيّن اختلاف نظرة الناس لها حسب حالهم:

تغني على الدوح الوريق حمامة

فيحسبه المحزون لحن بكاءِ

وتبكي على الغصن الرطيب يظنها

حليفُ الهنا تشجي الورى بغناء

وعندما نتأمل حال هؤلاء الشعراء الثلاثة نراهم متوافقين في العزلة والوَحدة والبُعد عن الناس؛ فأحمد الصافي النجفي كان يعيش في غرفة وحده، وكذلك كان يعيش فهد العسكر، بعيدَينِ عن أهلهما، أما حمد الحجي فقد عاش جُلَّ حياته في دار الرعاية الاجتماعية، ولقد عبَّر كل واحد منهم عن ذلك برؤيته الخاصة؛ فنقرأ لأحمد الصافي قصيدة بعنوان (الدار والجار)، يقول فيها:

قال قومٌ: الجارُ قبل الدارِ

ولذا قد ألِفتُ سكنى القفارِ

طفتُ في الأرض ما ظفرتُ بجارٍ

فمن اليأس ما أقمتُ بدارِ

لستُ أرضى إلا جوار ملاكٍ

لا جوارًا لكل وحشٍ ضارِ

كيف أسطيع حَمْلَ غِلظة جارٍ

هو في الليل مزعجي والنهارِ

وسِعَتْ أرضُنا لكي نتناءى

فلماذا ازدحامنا في الجوارِ؟

ولم يقف الصافي عند هذا الحد، بل إنه آثر مجاورة الحيوان على مجاورة بني جنسه، اقتفاء لسُنَّة القائل: «عوى الذئب فاستأنستُ بالذئب إذ عوى»؛ فلنقرأ قوله:

جاورتُ أفعى في السقف ساكنة

تُطربُ لي بالفحيح أسماعي

وإن تلوتُ القريضَ تنصِتُ لي

كأنها أطربت لأسجاعي

قالوا: تَحذرْ فالسمّ في فمها

فقلتُ: سُمِّي منكم وأوجاعي

للمكر تعزونها، ولست أرى

منكم سوى ماكرٍ وخدّاعِ

وكذلك نقرأ لحمد الحجي قوله:

يا إلهي، إليك أشكو انقباضي

واعتزالي وخلوتي وانتحابي

وقد سبق هذا البيت في القصيدة نفسها قوله الذي يُعلل اعتزاله وخلوته:

أم لأني أرى الأنام بأجسا

مٍ توارت فيها نفوسُ الذئابِ

بين نذلٍ وخائنٍ وعدوٍّ

وحسودٍ وصاحبٍ ذي كِذابِ

ونقرأ له أيضًا:

آه لو أنكِ أبصر

تِ مدى عمق جراحي

واعتزالي عالمَ النا

س لكي يجلو نواحي

أما فهد العسكر فهو يصوّر اغترابه وعزلته قائلاً:

يا ناسُ قد أدمى اغترا

بي مهجتي والدار داري

أصغي فلم أسمع بها

غير النهيق أو الخوارِ

ومما يؤكد طغيان التشاؤم في شعر شعرائنا الثلاثة أنه يزاحم مظاهر الأنس والفرح عندهم؛ فهذا فهد العسكر ينشد قائلاً:

ذكرى أثارت غافيَ الأحزانِ

أشجاكَ يومَ العيد ما أشجاني

شجنٌ مُمِضٌّ صارخٌ وكآبة

خرساء يا للبؤس والحرمانِ

صدعتْ صباحَ العيد كأسيَ زفرةٌ

أطلقتُها من قلبي الحرّانِ

ثم يقول:

كفوا الملام فلست أول بائس

يستبدل الأفراح بالأحزانِ(1)

فلم ينفك التشاؤم يداهمه في وقت من أوقات السعادة والفرح.

ويصوِّر لنا الشاعر أحمد الصافي النجفي منظرًا من مناظر الأنس، ولكنه يفضِّله خالياً من الناس؛ ليسعد ويرتاح؛ فيقول:

جميلٌ بعينيَّ هذا المصيف

وأجملُ ما فيه فقدُ البشرْ

فما فيه من ناطق مقلق

يُشوِّش لي ما أرى من صورْ

مصيفيَ ذا مقفرا خاليا

فإن جاءه الناس منه أفِرْ

كذا البومُ إن أقبلتْ للرياض

تصيح البلابل: هل من مفرْ؟

ونجد طغيان الحزن على الفرح عند حمد الحجي في قوله:

طغت موجة الحزن في خاطري

فأغرقت الفرحة الطافحه

طوى الدهرُ أياميَ الباسماتِ

ووافى بأيامي الكالحه

بلوتُ ملوحة هذي الحياة

ولم تك من قبلُ بالمالحه

وقوله:

لما أتى العيد أبكاني وهيَّجني

فليتني بعدكم ما مرَّ بي عيدُ

فهد بن علي العبودي - الدلم

had_541@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد