على مدى الأربعين عاماً عشت وعايشت فيها مسيرة الفن التشكيلي بحكم أنني من الجيل الثاني في أجيال الساحة مع عدد لا بأس به من التشكيليين ممن هم في عمري لن أفصح عنهم لئلا اكشف ما ذهب من عمري وعمر الزملاء ونحسب من (عواجيز الفن التشكيلي) لشعورنا بأننا ما زلنا في ريعان شباب الإبداع على الأقل.
لقد شهدت خلال الأربعة عقود الكثير من المواقف الجميلة التي يتلقاها هذا الفن من أناس يحملون الذائقة الرفيعة وفهم معناه وابعاده الوجدانية وقيمته الثقافية، سأذكرها قريباً في كتاب أعده بعنوان تجربتي بين اللوحة والقلم لأسلط الضوء على بعضٍ من تلك المواقف المشرفة لهؤلاء وللفن، فقد حظيت الساحة التشكيلية بمواقف وطنية تبناها رجال أخلصوا لكل من في الوطن وفي مقدمتها دعم أصحاب المواهب والإبداعات، فقد وجد هذا الفن من أعلى هرم المسؤولية ومن مختلف شرائح المجتمع التقدير والإعجاب فتحقق له النجاح والحضور العربي والدولي، أما حديثي اليوم فيأتي متزامناً مع الموقف الأقرب المتمثل في اكتشاف الفنانين من ميول وقدرات ورقي ذائقة رجل يحمل مسؤوليات كبيرة قد تجعلنا نتوقع عمداً تفرغه لمتابعة الفنون والمعارض أو حتى الالتفات لها في خضم مشاغله ذلك هو معالي وزير التعليم العالي الدكتور خالد العنقري الذي فاجأ التشكيليين بامتلاكه العين الحاذقة (المقتنصة) للجمال وامتلاكه لوجدان مفعم بالثقافة البصرية تجاه كل نواحي الجمال في الحياة ومنها الأعمال التشكيلية، جاء هذا الاكتشاف حينما شاهدناه يختار بعضاً من أعمال التشكيليين في الرياض كخطوة أولى من خطوات اعتزامه تجميل المبنى الجديد للوزارة بلوحات تشكيلية لفنانين سعوديين من مختلف مناطق المملكة بالتعاون مع وكالة الشؤون الثقافية بوزارة الثقافة والإعلام والجمعية السعودية للفنون التشكيلية، أجمع التشكيليون والمتابعون ونقاد الساحة على أن الأعمال التي اختارها معاليه لا يمكن الاختلاف عليها كونها تحمل حقيقة العمل الفني المكتمل البناء فكرة وتقنيات وبعداً ثقافياً وجمالياً دون معرفة مسبقة من معاليه أنها لفنانين أصحاب خبرات وتجارب واسعة وحضور محلي ودولي، وهذا هو مربط الفرس كما يقال، فمعاليه اعتمد على قيمة اللوحة جمالياً فأصاب الهدف.
والحقيقة أن الأمر لا يتوقف عند هذا الاكتشاف وما أصبحنا نعرفه عن معاليه من رقي ذائقة وعلم بالفنون وأسس العمل الفني المتميز في خضم مشاغل الوزارة بل امتد إلى مواقف وطنية تمثلت في دعم أبناء الوطن المبدعين بأن أضاف إلى إبداعاتهم جمالا إلى جمال مقر الوزارة الجديد على شارع المعذر المعلم الذي يجمع المعنى بالمبنى ما يؤكد أنه خلف كل خطوة في بنائه من التصميم إلى تجميله باللوحات السعودية، وكأن به يذكر أن وزارة التعليم العالي لم تستحدث أقسام التربية الفنية في جامعاتنا من فراغ بل تستحدثها استشرافاً لمستقبل بعيد لصناعة أجيال مبدعة في هذا الفن العالمي الشهرة والاهتمام، فكان للوزارة هذا النجاح أن نرى الأجيال الجديدة تحمل مؤهلات أكاديمية من البنين والبنات.
لقد أعاد معاليه الأمل للساحة التشكيلية بمبادرته الداعمة هذه باستقطاب أبناء الوطن وتكريمهم بأن تكون لوحاتهم في حضن يتشرف به كل فنان على أرض الوطن، كما لا ننسى في هذا المقام تعاون وزارة التعليم العالي وثقتها بالجمعية السعودية للفنون التشكيلية بحكم أنها المعنية بهذا الفن وإتاحة الفرصة لأعضائها بالمشاركة في هذا التوجه من الوزارة باعتبار أن الجمعية البيت الآخر للتشكيليين الذين يشكل خريجو الجامعات السواد الأعظم منهم من الجنسين.
اختم القول ان وزارة التعليم العالي وموقف معالي الوزير الدكتور خالد العنقري يكمل ما حرصت عليه حكومتنا الرشيدة أن تكون الأعمال التي ترغب المؤسسات تجميل مبانيها بها من إنتاج أبناء الوطن، وقد كان لعدد من القطاعات مساهمة في هذا الجانب، حيث تم تجميل وزارة الداخلية والمبنى الرئيسي للحرس الوطني ومطارات المملكة في جدة والرياض والمنطقة الشرقية والديوان الملكي ومجلس الشورى، وهي مواقع يعتز التشكيليون أن تكون أعمالهم في مقراتها، مع ما تحقق لهذا الفن وفنانيه من حضور عالمي متسلحين بالموهبة ومدعمين بأصول العمل وفق معاييره الصحيحة بما تلقوه من علومه على أعلى مستوى وبما اختزلوه من تجارب وخبرات.
monif@hotmail.com