من المبادئ ذات العلاقة بأصل التحضر أو بناء المدن يعود إلى مصطلح «بولِس Polis»، الذي جاءنا من الحضارة الإغريقية، ويقصد بالمصطلح المدينة، وتعني في واقع الأمر ثلاثة أشياء، أو تحتوي على ثلاثة عناصر: النظام (التشريع)
والسياسة والشرطة، ونقول إنها «الكلمات الثلاث» التي تبدأ كل واحدة منها بحرف «البي» الثقيلة في اللغة الإنجليزية، ومن الضروري الانسجام بين هذه الأمور الثلاثة، والتي تحولت فيما بعد، عبر الحضارات، إلى مؤسسات عامة تنظم قضايا المجتمع وتلبي حاجاته. وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر فإن ما يحصل خلف الكواليس في حكومة أوباما عبارة عن صراع بين السياسة والتشريع، أو السياسيين والمشرعين، صراع له دوافع ومسببات.
لقد هاجم الجمهوريون المدعي العام الأمريكي هولدر، أول مدعٍ عام من أصل إفريقي، والرئيس أوباما لقراريهما بإقامة محكمة مدنية لكل من خالد شيخ محمد، المتهم بتنظيم هجمات الحادي عشر من سبتمبر بدلاً من محاكمته أمام «لجنة عسكرية،» وكذلك اعتبار عمر فاروق عبد المطلب، النيجيري الذي حاول تفجير طائرة أمريكية يوم عيد الميلاد، مدنياً بدلا من اعتباره «عدواً مقاتلاً»، وتعيين محام له وتلاوة حقوقه المشروعة عليه. وهناك من يذهب إلى أن ثمة «حرباً سياسية»، موازية للحرب على الإرهاب، داخل أمريكا حول طريقة التعامل مع المتهمين بالعمليات الإرهابية، وليس هذا فحسب، بل إن هذه الحرب تزداد شراسة يوماً بعد آخر. وعلاوة على ذلك فلقد تكونت «مجموعة عمل سياسية»، أو ما يشبه «منظمة سياسية» أسستها ابنة مساعد الرئيس السابق، شيني، وبل كريستل، ناقد محافظ عمل مع الإدارات الجمهورية السابقة، ومشارك ثالث، أخت لأحد الطيارين الذين لقوا حتفهم في هجوم 119، وهي من الجمهوريين الناشطين. هؤلاء الثلاثة كونوا «مجموعة عمل سياسية» والتي من مهامها الأساسية مهاجمة أوباما فيما يتعلق بقضايا الأمن الوطني. وتتلخص خطة هذه المجموعة، أو المنظمة، في الدفاع عن سياسات إدارة بوش السابقة، وذلك بالهجوم على سياسات إدارة أوباما، ومن خططهم الدخول في سباقات الترشيح لمجلس الشيوخ الأمريكي. وتحاول المجموعة إثارة كوكبة من القضايا ذات العلاقة بطريقة محاربة الإرهابيين، ومن أعظم القضايا المثيرة للجدل ما يتعلق بكيفية اعتقال المتهمين بالإرهاب، ومن ثم التحقيق معهم.
ومن المعلوم أن إدارة بوش غيرت من سياستها، إذ قبل أحداث سبتمبر كان الإرهابيون يعاملون معاملة المجرمين، مثلما هو الحال في جميع أقطار العالم. أما بعد أن أعلن بوش حربه على الإرهاب وقوله إن الإرهابيين ليسوا مجرمين بل «محاربين من نوعٍ ما»، عندها تغيرت المعاملة تماما، وعدَّ ما يرتكبونه «جريمة حرب»، ورأى بوش أنه يجب التعامل معهم من خلال «النظام العسكري» بدلاً من «النظام الجنائي» المدني المعتاد. وأصبح هذا يعني، من الناحية العملية، أن وزارة العدل وضعت في المقعد الخلفي وتولت «البنتقان» محاكمة الإرهابيين. وأقرب تأثير من هذه المجموعة على مسيرة الانتخابات للمجلس التشريعي الأمريكي فوز براون، الجمهوري من ولاية ماستشوسس، بالمقعد الذي كان يحتله إدوارد كندي، الديموقراطي، لسنوات عديدة. وكان فوز براون، لا على أساس انتقاده لمشروع أوباما الصحي فقط، بل ما يتعلق بطريقة التعامل مع قضية المتهم بمحاولة تفجير الطائرة يوم عيد الميلاد، وكذلك إحالة قضية خالد شيخ محمد للقضاء المدني بدلاً من المحاكم العسكرية.
والمتهم النيجيري بمحاولة تفجير الطائرة الأمريكية لا تختلف معاملته عن أي إرهابي متهم تم القبض عليه داخل الأراضي الأمريكية، وهذا ينسجم تماماً مع ما كانت تصنعه إدارة بوش والإدارات السابقة له تجاه المتهمين بالإرهاب. ولقد ذكر مسؤول كبير في البيت الأبيض بأنه ليس ثمة بديل عن النظام القضائي المعمول به ولا يوجد في دستور الولايات المتحدة ما يدل على أن الجيش يمكن، تحت أي ظرف، أن يقوم مقام النظام القضائي، أو بمعنى آخر لا يوجد بديل سوى ذلك. وما قام به وزير العدل يعد إجراءً روتينياً عادياً بالنسبة لقضية النيجيري المتهم، وينسجم مع ما يتطلبه الدستور الأمريكي، وأي إجراء خلاف ذلك يعد مغايراً لروح دستورهم. ولكنَّ السياسيين يكيلون أحياناً، إن لم يكن معظم الأحيان، بمكاييل متعددة وليس بمكيالين فقط. والغريب في الأمر أنه على الرغم من أن القيادات الجمهورية في الكونجرس حولوا الأمر إلى كرة يتقاذفونها مع وزارة العدل، إلا أنهم لم يقولوا شيئاً في حينه عن الموضوع حالما علموا بالإجراءات الروتينية المتخذة بشأنه.
ولقد ثبت أنه بالتعاون بين ال»إف. بي. آي.» وال «سي. آي. ايه». تم إحضار واحدٍ من عائلة «النيجيري المتهم» لإقناعه بالتعاون كمخبر عن القاعدة، إن أراد أن يخفف عنه الحكم بالسجن المؤبد، ولقد أقنعته عائلته بذلك. وهنا تلعب السياسة لعبتها إذ إن الإجراء عينه، من اتصال بعائلته ليقنع بهذه «الصفقة»، قاد بعضهم لاتهام القضاء بالنعومة مع المتهمين مما يجعل الأمر أكثر يسراً لهم مما لو تعامل معهم الجيش. وكيف لعائلة أن تتعاون مع أي سلطة لو ظنت أن ابنها سوف يؤخذ من مكان ما على وجه الأرض ثم يخفى في زنزانة مظلمة ثم يتعرض لأسوأ أنواع التعذيب؟ ولقد وصل الأمر ببعض الجمهوريين، أمثال شيني، أن يتندر بما نعته ب»النعومة» التي يمارسها أوباما مع ما يسمون ب»الإرهابيين» وأن ذلك بمثابة تقديم المساعدة والراحة للأعداء. أما التعذيب للمعتقلين ب»الإغراق المائي»، ومن ثم انتزاع الإفادات منهم انتزاعاً فيعد إفادات «ملوثة» من قِبل المدافعين عنهم. وما ورثته إدارة أوباما من إفادات، تحت الظروف الموصوفة، من الصعب استخدامها ضد أولئك المتهمين قانونياً. وهنالك حالات في عهد الإدارة السابقة استلمتها السلطات العسكرية ولكنها لم تحقق نجاحاً يُذكر من حيث الحصول على المعلومات، على الرغم من شدة أساليب التحقيق الممارسة على المعتقلين.
ففي حالة «خوزيه بادلا» اعتقل لمدة لا تقل عن سبعة شهور، ولم يحصل المحققون العسكريون منه على معلومات مفيدة، وفي حالة علي صالح المري اعتقلته السلطات العسكرية لمدة ست سنوات، وكان في زنزانة انفرادية ولم يستطيعوا الحصول منه على معلومات. والغريب أيضاً أن الجمهوريين، يشنون حملات ضد إدارة أوباما بسبب مقاضاة المتهمين بالإرهاب في المحاكم المدنية بدلاً من اللجان العسكرية، على الرغم من أن نجاحات القضاء في التحقيقات معهم أكبر منها في اللجان العسكرية، وسرعان ما يذهب العجب إذا ما عُرف أن كل ذلك لأسباب سياسية محضة. وكمثال على ذلك ذكرت سارة بيلين، في منتدى «حفلة الشاي»: «لا نحتاج إلى أستاذ جامعي ليحارب الإرهاب، بل إننا في حاجة إلى قائد أعلى». ويعد وزير العدل المسؤول عن الضبط القضائي ويحاول ألا يتورط في السياسة بطريقة أو أخرى، وهذا في حد ذاته خلق الكثير من الاحتكاك السياسي الذي لا مفر منه.
والحاصل الآن أن هنالك ثمة استراتيجيتين تتعلقان بالموضوع هذا، ضمن الإدارة الأمريكية الحالية: واحدة خاصة ب راحم إمانويل، رئيس إدارة البيت الأبيض والأخرى خاصة بالمدعي العام الأمريكي. بالنسبة ل إمانويل فإن محفظته سياسية في طبيعتها، وينحصر جل تفكيره، كما هو متوقع، في كيفية حماية الرئيس ومن ثم الحرص على تنفيذ «أجنداته» السياسية، ومن هذه الناحية إذا كان الرئيس يريد قفل معتقل «جوانتانامو» ستكون الإدارة في حاجة إلى الحصول على تأييد من الحزبين الجمهوري والديموقراطي. أما المدعي العام فينظر من وجهة نظر قانونية، كما هو متوقع أيضاً، إذ لا بد من استخدام الوسائل الأكثر موثوقية لإدانة المشتبه بهم، وذلك باستخدام المحاكم وتطبيق القانون وليس بتكوين اللجان العسكرية المؤقتة. وهناك قول مفاده انه إذا لم يغلق معتقل «جوانتانامو» فسيكون الملام هولدر نفسه، المدعي العام، والواضح أن هنالك انقساماً داخل الإدارة نفسها فالنظام يتجه وجهة والسياسة تتجه اتجاهاً آخر، والنتيجة توتر مستمر، يكاد لا يرى له نهاية.