Al Jazirah NewsPaper Thursday  04/03/2010 G Issue 13671
الخميس 18 ربيع الأول 1431   العدد  13671
 

انطباعات سائح محب ل(دبي)
عثمان عبدالعزيز الربيعة

 

أما علامة حبي لدبي فتظهر من تكرار زياراتي لها بقصد السياحة فحسب، وبرفقة عائلتي، زرناها في عطلات الصيف ثم تحولنا إلى عطلات الشتاء،

بعد أن انصهرنا بقيظها وتشبعنا برطوبتها وأما عن اختيارها وجهة السياحة المفضلة بدلاً من السياحة في ربوع الوطن فإنه محكوم بأمرين: أولهما الرغبة في التغيير، أي تغيير الجو الذي عاش فيه المرء طوال العام. ويشمل ذلك الناس والمنزل والمناخ والمحيط بشكل عام وحب التغيير طبع يلازم الإنسان - وهو ملول بطبعه - حتى أنه يكاد يكون هدفاً للسياحة في بعض الأحيان. ثانيهما أن التغيير المنشود ربما يجده المرء في الداخل في مناطق الطائف والباحة وعسير صيفاً وعلى ساحل تهامة وفي مدينة جدة شتاء لكن التغيير هنا ينحصر في الجو الطبيعي فهو شارح للصدر. أما الجو الاجتماعي - القادم من الرياض - فهو كما عهدناه منذ أجيال قابض، حيث خدمات الترفيه العائلي محدودة، والتمشي العائلي الحر في الهواء الطلق أو الجلوس حول مائدة واحدة في مكان مفتوح تحيط بهما قيود وتقاليد كثيرة. المحلات العامة كالمطاعم والمراكز التجارية تغلق قبل وأثناء وقت الصلاة، مما يحد من وقت استخدام هذه الأماكن، مع أنه يمكن إيجاد مصليات داخل هذه الأماكن تسمح بأداء الصلاة جماعة في وقتها (كما هو حاصل بالفعل في الدوائر الحكومية والمؤسسات والمستشفيات) ثم أن كثيراً من أماكن النزهة والخدمات الأخرى ليست على مستوى جيد من النظافة. ومعذرة لمن يخالفني الرأي، فهذه الصادات السياحية التي ذكرتها لا وجود لها في دبي. فلا تستكثروا عليها قضاء أسبوع يستمتع فيها السائح بكل أغراض السياحة النزيهة التي تجتمع في هذين البيتين المنسوبين للإمام الشافعي رضي الله عنه:

تغرب إلى الأوطان في طلب العلا

وسافر ففي الأسفار خمس فوائد

تفرج هم واكتساب معيشة

وعلم وآداب وصحبة ماجد

فهناك من يذهب لتفريج الهم والمتعة والنزهة وقد يجمع إلى ذلك اكتساب المعيشة من خلال التسوق (خاصة في مناسبات التخفيض أو إقامة المعارض) وهناك من يريد أن يثقف نفسه بمعارف جديدة عن آثار البلد ومتاحفها ومكتباتها وعمرانها أو حضور مؤتمراتها وهناك من يجد المتعة في رفقة أصحابه أو التعرف إلى زوار أو شركاء عمل قادمين من بلدان أخرى. ومن دون شك فإن انجذاب السائح إلى دبي يقف وراءه مغريات الدعاية السياحية والمعالم العمرانية التي تستجد عاماً بعد عام ويذيع صيتها في أنحاء المعمورة. وفي هذه العطلة الشتوية القصيرة في هذا العام بالذات، فإن أكثر من شاهدناه من السياح هم من إخواننا أبناء الوطن، لذلك لا حاجة للحديث عن معالم دبي فالكل يعرفها ومع ذلك لابد من التوقف عند بعض المحطات.

المحطة الأولى: إن بعض الأصحاب لاحظ أن عدداً - وإن كان ليس كبيراً - من الرجال الذين تبدو عليهم مظاهر الوقار والتدين من أبناء بلدنا، يمشون في الأسواق المختلطة مع أهلم ويأكلون معهم في مطاعم مفتوحة (أو كما يقال مختلطة) دون أن يتخلوا عن الوقار أو الحشمة فتساءلوا: هل تغير هؤلاء بمجرد أن غادروا بلدهم؟ ولكن تمخض نقاش هذه الملاحظة عن القناعة بأنهم لم يتغيروا، وإنما تغيرت المعايير التي يقاس بها أو يحدد بها السلوك الاجتماعي، فالمسألة نسبية، ولاحظ هؤلاء الأصحاب كذلك - وان كان في الاتجاه المضاد - تصرفات بدرت من بعض شبابنا المراهقين في صورة معاكسات مخجلة على الممشى المشهور في منطقة الجميرة بعد الساعة العاشرة مساء. في هذه الحالة فإن السلوك غير الحضاري لهؤلاء الفتية لم يكن نتيجة لتغيرهم بعد ترك الوطن، بل لعدم التزامهم بضوابط التسامح الاجتماعي وهذا أمر يمكن لجهات الانضباط في دبي أن تعالجه - كما عالجت غيره - كي لا يفسد الصورة الراسخة في الأذهان عن الأمن الاجتماعي الذي تشتهر به هذه المدينة فليس الانضباط هو الذي يتعارض مع التسامح، وإنما هو الانفلات.

ثاني المحطات: دبي نفسها. لقد بلغت هذه المدينة أعلى القمم في عمرانها (برج خليفة مثلاً) وشيدت بروجاً من تحت الماء (برج العرب) وبرعت في استخدام التقنية الحديثة (نجاح شرطة دبي في كشف قاتل سوزان تميم وقتلة محمود المبحوح) وأنشأت مركزاً مالياً عالمياً ومدينة للإعلام، ومجمعات تجارية ضخمة تعج بمرتاديها ليل نهار وتجمع بين الأسواق والمطاعم والمقاهي والمكتبات وملاهي الأطفال ودور السينما وأحكمت إنشاء بنية تحتية متماسكة لا يخر منها الماء (بالمعنى الحرفي) وسادت في المدينة بصفة عامة ما يمكن تسميته بثقافة الانضباط في كل شيء: في النظام المروري، في العمل، في الأسواق وفي النظافة على سبيل المثال دورات المياه في جميع المجمعات التجارية وفي قاعدة الأبراج السكنية تشع نظافة وترتيباً (أين منها دورات المياه في بعض منافذنا الحدودية التي كلما تذكرتها شعرت بالغثيان).

وتستقبل هذه المدينة أكثر من 15 مليون سائح في العام من مختلف أقطار العالم فلا تلاحظ فوضى، بل كل شيء يدور بانتظام كما الساعة وبجانب المدينة ميناء ضخم حديث ومنطقة صناعية (جبل علي) كل ذلك وأكثر منه تجده في دبي فلو قارنتها بأحدث مدن العالم المتقدم لما ترددت في القول إنها في صفها أو هي في المقدمة.

لكن هل هذا يكفي لاعتبار دبي نموذجاً حضارياً تحذو حذوه المدن الخليجية والعربية الأخرى؟ ما نراه من تطور في أبوظبي والمنامة والدوحة والكويت والرياض يوحي بذلك ولكن يلح السؤال: لو سارت كل الحواضر العربية على درب دبي هل نكون بذلك بنينا نهضة حضارية عربية؟

لا يمكن الجواب بالإيجاب، وتعليل ذلك ليس صعباً، فما الذي انتجناه وأبدعناه بعقولنا وبمهاراتنا العربية في دبي حتى بلغت ما بلغته من تقدم ورقي مدني؟ نعم نملك الأموال والسلطة لجلب واستخدام التكنولوجيا أما العمل والإنتاج والإبداع فيقوم به غيرنا من العامل البسيط إلى العامل الماهر إلى الفني إلى المهندس والخبير. هم يفكرون ويبحثون وينتجون ونحن نستهلك، فليس لنا دور خلاق ولا نشارك في البحث والإنتاج ومن ثم لا نتعلم لذلك نفتقد التراكم المعرفي والخبرة المحلية المثابرة، فنظل متكلين على استيراد الجاهز أو على من يعمل نيابة عن أيدينا ويفكر ويبحث نيابة عن عقولنا وغني عن الذكر أنه ما هكذا صنعت مدينة متحضرة مثل سنغافورة - على سبيل المثال - التي أصبحت بما وصلت إليه نموذجاً حضارياً حقيقياً يشار إليه بالبنان. إذ لم تقف مكتوفة الأيدي تلقف ما يلقى في فمها من ثمرات الاستثمار والصناعة الأجنبية، بل أوجدت لأبنائها مراكز تدريب ومراكز أبحاث ومستوى تعليمياً متطوراً مما مكنهم من أن يستوعبوا ويوطنوا أدوات الإدارة الحديثة والعلم والتكنولوجيا ويساهموا في العمل والإنتاج والإبداع مع شركات الرأسمال الأجنبي ويتسلموا زمام الريادة في بلدهم حتى عدت من النمور السبعة المعروفة وليس من قبيل المصادفة أن يكون المدير العام لجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية من سنغافورة، فلعلنا على أعتاب صحوة علمية.

المحطة الثالثة: وهي صغيرة ولكنها تستحق التوقف عندها، تلك هي مجمع ابن بطوطة هذا الاسم التاريخي الرنان أراد أصحاب هذا المجمع التجاري أن يكونوا أوفياء له فزينوه بمعالم ديكورية تمثل بعض الأمم والشعوب التي كان لها باع طويل في الحضارة وهي الصين والهند وفارس ومصر والأندلس لكن الأمر لم يتجاوز الديكور المعماري وبعض المجسمات أما الباقي فهو عبارة عن محلات تجارية تشبه أي مجمع تجاري. يالخيبة ابن بطوطة، لو أنه رأى ما رأيناه فلن يتجشم عناء مشوار بعيد عن مركز المدينة كان من الأليق بهذا الرمز التاريخي أن يشتمل المجمع على نماذج الآثار أو معالم مشهورة في تلك البلاد مثل تاج محل وقصر الحمراء والأهرامات وسور الصين ومعالم أصفهان كان اللائق أيضاً أن تشمل كل زاوية ممثلة لحضارة معينة على محل يعرض أبرز ما اشتهرت به تلك البلدان من فلكلور وفن وملابس وتحف ومنتجات غذائية وأن يشتمل المجمع على دور للسينما تعرض - ولو بشكل محدود - أفلاماً من تلك البلدان. وربما يتحول هذا المجمع إلى مركز ثقافي عالمي تعرض فيه بشكل دوري متزامن مع المناسبات (مثل العطل والمعارض وغيرها) عروض فنية وتقام أيام ثقافية.

على أننا سمعنا أن هذا المجمع سيكون أولى ضحايا أزمة الديون في دبي، وأن الشركة المالكة له سوف تبيعه، فلعله المالك الجديد يكون أكثر وفاء لابن بطوطة.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد