عادة ما يصنع الإعلام قائمته لنجوم المجتمع، وغالباً ما يختفي أضعاف هذه القائمة في الظل، كنجوم حقيقيين اختاروا بمحض إرادتهم أن يبتعدوا عن الأضواء، بعد أن أدوا أدوارهم في الحياة بإتقان محكم، وقدموا خير مثال للإنسان الذي يعطي بسخاء ولا ينتظر مكافأة من الآخرين، ولعل هذه النوعية الفاخرة من البشر قد مروا أيضاً في أيامكم، مثلما مر بعضهم من نافذتي الصغيرة على الحياة، لكن ربما فضلت الغالبية من الناس أن يذكروا أولئك المتميزين في السر و بالدعاء لهم بالأجر والثواب، وذلك فيه سمو وفضل عظيم، لكنني أرى أن نذكرهم ونبرز جهودهم ونكرمهم أيضاً في العلن، وذلك تقديراً لذلك الأداء التي قدموا من خلاله أمثلة خارقة للعادة من إنكار الذات ورفعة النفس وسمو الأخلاق..
|
في الطريق إلى مدرسة حطين المتوسطة في أواخر السبعينات والثمانينات الميلادية، يمر الإنسان عادة بمظاهر وزوايا تحكي تفاصيل الأحياء الشعبية ومظاهرها في مدينة الرياض، فالأصالة والاتقان في الأعمال اليدوية والتقاليد الشعبية القديمة كانت بارزة في مهارات وسلوك وملامح الناس في تلك الطرقات الضيقة، كذلك هو الحال في متوسطة حطين، والتي كانت تضرب المثل في أفضليتها في تلك المرحلة، فقد كانت تضم رقماً عالياً من التلاميذ، وكان عدد فصولها لكل مرحلة يتجاوز عشرة فصول..
|
اشتهرت تلك المدرسة بمعلمين لامعين، قد يصعب حصرهم في هذه المقدمة، لكنني أستميحهم عذراً في أن أكتب عن أحدهم من باب الوفاء لدور المعلم الخالد في حياة طلبة العلم، وعلى قدر مكانته العظيمة في تربية الأجيال، و كسب احترام التلاميذ الصغار، وهي سمة نادرة، لا تتوفر إلا في القلائل، كان على رأس هذه القائمة حسب تجربتي الصغيرة معلم اللغة العربية الفاضل محمد العبودي (أبوسامي)، والذي كان مثالاً على صحة وكمال ما قاله أحمد شوقي في تقدير المعلم، فقد تميز الأستاذ محمد العبودي بالشخصية المثالية والجذابة والقدرة المبهرة على كسب احترام الطلبة على مختلف أعمارهم وطبائعهم في المرحلة المتوسطة.
|
كان نموذجاً للمعلم والمربي الفاضل نظراً لما يتمتع به من أبوية وتفانٍ وإخلاص منقطع النظير، فقد تميز بقدرات غير عادية، كان قوامها المصداقية التي تشع نوراً بين كلماته، وروحها المحبة التي تنبع من صفاء النية والثقة بالنفس، وحالها القدرة الأخاذة في التأثير الإيجابي على التلاميذ، والذين كانوا دائماً ما يستجيبون له بالانتباه ومتابعة ما يصدر منه من سحر وبيان في حصصه عن قواعد ونصوص اللغة العربية.
|
وإذا تميزت اللغة العربية بسحر بيانها، فقد كان خير من نقله بإتقان إلى تلاميذه بفضل قدراته الفذة في التعبير عن فنون وجمال اللغة العربية، كان شاعراً لا يهوى الندوات الشعرية، وناكراً للذات لا ينتظر المكافأة والتقدير من الآخرين، متفانياً في عمله لدرجة عالية لا يمكن أن تفيها حقها هذه الكلمات، ومحباً لمهنة التعليم، ويملك قدرة فائقة في جعل التلاميذ يتعلمون ليس من أجل النجاح فقط، ولكن من أجل التعلم الذي يأتي طوعاً معه النجاح.
|
كان دائماً ما يتحدث بالأدب الرفيع مع طلبته، ولا يذكر أحداً من تلاميذه وأنا أحدهم، أنه غضب في مسيرته التعليمية إلا مرة واحدة، كانت بمثابة الدرس العميق الدلالة للجميع، عندما ظهرت على ملامحه الهادئة علامات الغضب حين نبذ تلميذ أحد المعلمين بعنصرية فجة، فكان الرد الأمثل من الأستاذ للجميع عن قبح العنصرية وسوء احتقار الآخرين، وكان الدرس النموذجي في العمر المناسب لطرد سلوك العنصرية من العقول مبكراً.
|
اتفقت الأجيال المتعاقبة على متوسطة حطين على قدرة تلك الشخصية المثالية وعلى عمق تأثيرها على جميع التلاميذ الذين مروا على فصل اللغة العربية للمعلم الفاضل ومربي الأجيال محمد العبودي، والذي أختار مؤخراً وبهدوء أن يتقاعد، فكانت سيرته العطرة تحكي بجدارة قصة المعلم الذي كاد أن يكون رسولاً:.. فشكراً من الأعماق أبا سامي..
|
أكتب هذه الكلمات أيضاً من أجل المعلم بشكل عام كمربٍ للأجيال ويستحق منّا دائماً الإجلال والتقدير، لاسيما أن مهنة التعليم شاقة، وكما عبّر عنها الشاعر والمعلم إبراهيم طوقان في قصيدته:
|
(لو جرب التعليم «شوقي» ساعة |
لقضى الحياة شقاوة وخمولا |
يكفي المعلم غمة وكآبة |
مرأى الدفاتر بكرة وأصيلا) |
|