تهويد فلسطين كان - وما زال - هدفاً صهيونياً منذ زمن طويل. ولقد عمل الصهاينة - وما زالوا يعملون - بجد وتصميم وبمختلف الوسائل على تحقيقه. والعوامل المساعدة لهم على ذلك التهويد.....
|
.....متعددة، في طليعتها خنوع أكثرية أمتنا، قادة وشعوباً، أمام أعدائها، وهو ما سنتحدث عنه في الجزء الثاني من هذه المقالة. ومن هذه العوامل، وهو مهم بدرجة كبيرة، اعتناق قسم كبير من المسيحيين العقيدة الصهيونية، ابتداء من حركة لوثر البروتستانتية التي ظهرت أواسط القرن السادس عشر الميلادي. وكان من نتائج ذلك الاعتناق أن تسربت إلى المسيحية الجديدة الأدبيات اليهودية ممثلة في ثلاثة أمور: الأول أن اليهود هم شعب الله المختار، والثاني أن هناك ميثاقاً إلهياً يربطهم بالأرض المقدسة في فلسطين، والثالث -وهو مهم جداً - ربط الإيمان المسيحي بعودة المسيح المنتظرة بتجمع اليهود في فلسطين وبلوغ قوتهم مداها على أرضها.
|
وما إن انتهى ذلك القرن حتى بدأ البروتستانت كتابة معاهدات تنادي بأن يغادر جميع اليهود أوروبا إلى فلسطين. وهكذا تحولت نظرة هؤلاء إلى هذه البلاد - بما فيها القدس - من كونها أرض المسيح المقدسة إلى كونها وطناً لليهود؛ لذلك لم يكن غريباً، ولن يبدو غريباً أبداً، إن كان العامل الديني أساسياً في تحديد موقف الغرب المسيحي، وبخاصة الأنجلو - ساكسوني، في دعم الصهاينة دعماً غير محدود على العموم. ولقد تناولت هذا الأمر بنوع من التفصيل في مقدمة كتابي، الذي أصدرته دار المناهل اللبنانية بعنوان (كتابات عن التصهين). وإن المرء ليعجب من وجود كُتّاب ما زالوا يصرون على أن الدين لا دخل له في توجيه سياسات الدول الغربية، كما يعجب من موقف من يستنكر تسمية أحزاب في الدول الإسلامية بأسماء إسلامية، مع أن هناك أحزاباً في الغرب المسيحي تسمى بالمسيحية وبعضها تحكم البلدان التي هي فيها. على أن الأهم هو أن الإدارات المتعاقبة على زعامة الولايات المتحدة الأمريكية - إلا ما ندر منها - متصهينة، وجاءت مواقفها دائماً مجسدة لهذا التصهين.
|
كانت أيديولوجية الصهاينة منذ وضع استراتيجيتهم الواضحة هي تهويد فلسطين وطمس هويتها العربية الإسلامية، إنساناً وتراثاً وأرضاً. وما خبت جذوة حماستهم لتنفيذ هذه الاستراتيجية الخبيثة على أرض الواقع. وبمهارتهم الشريرة استطاعوا أن يحققوا ما يريدون بدرجة كبيرة. ومن مهارتهم هذه أنهم يتوازعون الأدوار؛ فتجد فريقاً ينتقد سياسة فريق آخر علناً، لكنه يؤيده ويعاضده سراً. ومما يشاهد ويرى أن مسيرة التهويد لم تتوقف مهما كان توجه الحكومة الصهيونية المعلن أمام العالم. واقتضام الأرض الفلسطينية قطعة قطعة وتهويدها أمران واضحان كل الوضوح. ماذا بقي من هذه الأرض؟ تهويد القدس يسير بسرعة لم تدر في أذهان الكثيرين، الذين لم يتأملوا الفكر الصهيوني حق التأمل. وفي الأسبوع الماضي أعلنت الحكومة الصهيونية أن المسجد الإبراهيمي في الخليل أثر يهودي؛ لذلك يجب أن يُسلب من هويته العربية الإسلامية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى مسجد بلال بن رباح. وأسماء الطرق في الضفة الغربية غُيِّرت كتابتها من العربية إلى العبرية. وهلم جرا.
|
وماذا عن الخنوع وازدياده؟
|
عندما سارعت جيوش بعض الدول العربية، أو فئات منها، إلى الذهاب نحو فلسطين عام 1948م لنجدة أهلها أمام الصهاينة، الذين مهّد البريطانيون المتصهينون الطريق لهم كي يحتلوا أرضها المقدسة، كانت زعامات أكثرها غير حرة الإرادة؛ بل تأتمر بأمر القوة الغربية المهيمنة على شؤونها حقيقة.
|
لذلك لم يتهيأ للمخلصين من أفراد تلك الجيوش أن يقوموا بما كانوا يأملون أن يقوموا به. وتلا العقد الذي شهد نكبة 1948م عقد شهد بعضاً من تباشير أمل. غير أن العقد التالي لهذا العقد شهد نكسة 1967م، ثم أتى العقد الذي شهد زعامات عربية بدت إرادتها جلية واضحة. غير أنه اختتم بما مهّد الطريق للخضوع، وتوالى ازدياد الخضوع العربي أمام أعداء أمتنا مع مرور الأيام حتى وصلنا قيادات وشعوباً إلى ما وصلنا إليه من أوضاع مزرية. لقد تفجّر الجميع، قيادات وشعوباً، غضباً عندما أحرق صهيوني منبر المسجد الأقصى؛ فعُقد مؤتمر قمة إسلامية من أجل ذلك الحدث الجريمة. ومن المرجح أن ذلك الصهيوني قد فعل فعلته التي فعل بتأييد من الحكومة الصهيونية أو بعض أعضائها. لكن جرائم صهيونية أخرى ارتكبت بعد تلك الجريمة؛ فلم تترك من الأثر ما يدل إلا على خضوع يندى له جبين كل حر يجري في دمه شيء من الشهامة والإباء. وممن عبّر عن هذا الخضوع المهين الشاعر الدكتور غازي القصيبي، ردّه الله إلى وطنه سليماً معافى؛ فقد قال في قصيدته عن جريمة اغتيال الطفل الفلسطيني محمد الدرة:
|
يا فدى ناظريك كل بيانٍ |
بمعاني هواننا يتوقَّد |
يا فدى ناظريك كل اجتماع |
ليس فيه سوى خضوع يُجدَّد |
بل إن حرفته النبيلة بلغت حداً جعلته يقول:
|
قد علمنا تهوّد البعض منا |
أولم يبق معشر ما تهوّد؟ |
وقال من قصيدة عن الفدائية الفلسطينية آيات:
|
قد عجزنا حتى شكا العجز منا |
وبكينا حتى ازدرانا البكاءُ |
وركعنا حتى اشمأز ركوع |
ورجونا حتى استغاث الرجاء |
وشكونا إلى طواغيت بيت |
أبيض ملء قلبه ظلماء |
وكنتُ قد أوردت تلك الأبيات في مقالة نشرتها بعنوان (القصيبي معبراً عن القضية)، واختتمت تلك المقالة بما يأتي:
|
«لقد هجا شاعر قديم منافسه على أساس قبلي ممقوت بعيد عن الحق آمراً إياه بأن يغض الطرف لأنه من القبيلة المهجوة. والآن أليس من الصدق بمكان لو خاطب شاعر كل من أيّد العدوان على الشعب الفلسطيني ببقائه أصم أبكم مستلذاً كؤوس الذل قائلاً:
|
فغض الطرف إنك يعربي |
تمرّغ في المذلّة والهوان |
يداس على كرامته فيبدو |
قرير العين مغتبط الجنان |
إذا ما شاء سيده يغنّي |
ويعزف - إن أراد - على الكمان |
اللهم هيئ لأمتنا من أمرها رشدا
|
|