Al Jazirah NewsPaper Monday  01/03/2010 G Issue 13668
الأثنين 15 ربيع الأول 1431   العدد  13668
 
العلاقة الانتهازية مع العادات والتقاليد
د. عبد الرحمن الحبيب

 

بعد لقائي في برنامج تلفزيوني غضب صديق متهمني بأنني شوهت الحقائق. قلت: صحيح بالنسبة لنخبوي! قال: تعترف بالكذب! قلت: لم أكذب، ولكن لم أقل كل ما أعرف.. البرنامج كان شعبوياً،

وكان لا بد من مراعاة ذلك واحترام العادات والتقاليد..

قال: إذن، أنت تخضع لاستبداد العادات والتقاليد، قلت: ربما، فهناك شعرة تفصل بين الاحترام والخضوع، لذا قد أكون وقعت في الثاني الذي أشار له برتراند رسل:» على المرء أن يحترم الرأي العام بالمقدار الذي يبعده عن الجوع والسجن. الاحترام الزائد عن ذلك هو استسلام طوعي للاستبداد.» فقد أكون بالغت في الاحترام! إنها العادات والتقاليد عندما نحولها بإرادتنا إلى سوط مستبد!

ففي كثير من الحوارات نلاحظ عندما يتوافق طرح السلفي مع العادات والتقاليد فإنه يتهم الطرح الحداثي بالتغريب والاغتراب عن المجتمع، ولكن عندما لا يتوافق طرحه معها يعلن أن مرجعيته هي تفسيره للقرآن والسنة وليس العادات والتقاليد. وبالمثل فعندما يتوافق طرح الحداثي مع المنطق التقليدي فإنه قد يتهم السلفي بالتحجر والاغتراب عن الواقع، ولكن عندما لا يتوافق طرحه مع التقليدي فإنه يعلن أن طبيعة التطور تستلزم تغيير العادات والتقاليد.

وكلما أمكن الأمر، فإن الطرفين - غالباً - يتنازعان العادات والتقاليد لإثبات انتماء الغالبية الصامتة لمنهجهما فيما يخص المسائل الدنيوية. فالسلفي يذكر أن منهجه إسلامي متكامل ويتدخل في كل المسائل الدنيوية، وذلك ما يناسب الأغلبية؛ بينما التحديثي يذكر أن الإسلام ترك المجالات الدنيوية حرة باستثناء النادر، وفقاً للمبدأ الفقهي « الأصل في المعاملات الإباحة» المبني على قاعدة الحديث الشريف « أنتم أعلم بأمور دنياكم»، ومن ثم، فإن الشؤون الدنيوية تمارسها الأغلبية وفقاً للمصلحة العامة دون الرجوع للإيديولوجيا السلفية.

المسألة واضحة، فكل طرف يريد التأكيد أنه صاحب الأحقية الأجدر لأنه يمثل الهوية الأقرب للمجتمع وتاريخه. وليس ثمة مشكلة في ذلك، فمن حق كل طرف أن يطرح أفكاره وقناعاته بالطريقة التي تتوافق مع منهجه لولا أن هذه الطريقة تلفيقية. وخطورة التلفيق هو أنه يُفقد المنظومة الفكرية لكل طرف طرحها الحقيقي ومرجعيتها، لأن العادات والتقاليد تتحول إلى مرجعية هلامية، أي يُرجع إليها إذا كانت تخدم الفكرة المطروحة ويتم نسفها إذا كانت عكس ذلك. وهذه العلاقة الانتهازية جعلت من عادات وتقاليد معينة تُبجل في مواقع وتُرفض في مواقع أخرى، وفقاً لتلفيق دوغمائي لهذا الطرف أو ذاك.

ورغم هذا التلاعب في التعاطي مع العادات والتقاليد فإن السائد ظاهرياً هو تبجيلها كلما أمكن الأمر ولو بالحيلة والمراوغة، لأنها مرتبطة بمسألة الهوية (الخصوصية) التي أصبحت ذات حساسية مفرطة لدينا. وأزمة الهوية تظهر عندما تكون المجتمعات في طور التكوين أو في طور التحول. وفي طور التحول - كما يحصل في مجتمعنا - تتنازع قوى المحافظة مع قوى التجديد على الهوية. والوعي بطبيعة هذا التنازع مهم جداً لكي يظل في حالة الجدل الفكري الصحي ولا يتفاقم وينتقل إلى حالة الاحتقان المَرضي. الوعي هنا يعني أن على المحافظين إدراك أن المجددين يهدفون للتطوير وليس لتهديد الهوية ونفي الذات، فيما على المجددين إدراك أن المحافظين يدافعون عن الأصالة وليس عن الجمود وتقديس الذات. والاختلاف عليه أن يتناول الوسائل وليس النيات الخبيثة أو الرجعية!

العلاقة المرتبكة للفكرة مع العادات والتقاليد يتم بسبب عدم التفريق بين طورين للفكرة: طور التنظير وطور التطبيق. صحيح أن الطورين متداخلان، لكن الفكرة كنظرية ليس عليها أن تأخذ مصادقة العادات والتقاليد كي تثبت صحتها، لأن حقها الأول هو التعبير وليس التطبيق، فهي ليست قراراً معيشياً يتم التصويت عليه؛ فثمة أفكار يُكتشف لاحقاً أنها عظيمة النفع، وكانت فيما قبل تُواجه برفض جماهيري.

هنا نواجه أزمة في الاقتناع بحرية التفكير والتعبير كحق لا يمس، فرغم أن هذا الحق أصبح واضحاً في المرحلة الحالية التي نعيشها، لكن وضوحه لا يزال على مستوى اللفظ وليس على مستوى الممارسة الفكرية. فلا يزال البعض يصادر وجهة نظر الطرف الآخر بحجة أنها تشكل تهديداً للهوية لأنها تتعارض مع العادات والتقاليد.

ونلاحظ في الفضائيات ومواقع الإنترنت كيف شاعت فكرة التصويت على أفكار معينة وكأن ذلك استفتاء على سلامتها، بينما المفترض أن يكون التصويت استطلاعاً للرأي وليس استفتاءً. ويمتد الاستفتاء لما هو أخطر حين يتم على الحقوق التي هي في الأساس غير قابلة للانتزاع, ومن ثم تصبح حرية الفكر محجوراً عليها ضمنياً وفقاً لتوجه الجماهير واستبداد الرأي العام.

الضرورة الاستبدادية لحصول الفكرة على جماهيرية تضطر الكثير منا لممارسة ما يمكن تسميته النفاق الاجتماعي، محاولاً أن يُظهر فكرته بطريقة ملتوية تستدر عطف الجمهور أو قناعاتهم دون أن تظهر الفكرة على حقيقتها. وبناء على ذلك تتوجه الفكرة على أسس عاطفية وشعبوية وحشو لغوي لا يخلو من غوغائية. هذا يجعل كثيراً من الأعمال الفكرية المطروحة متاهفتة وتفتقر للجدية والمهنية؛ لأن أساس المصداقية هو الرواج الجماهيري، وليس الجدارة.

إذا كان علينا احترام العادات والتقاليد كمسألة مهمة في اللباقة الاجتماعية، فإنه ليس علينا التقيد بها في الفكر فذلك ليس من شروط الفكر ولا أدوات التفكير. التفريق بين الاحترام الاجتماعي للعادات والتقاليد وبين الالتزام بها يزيل كثيراً من الغموض في علاقتنا الفكرية المرتبكة مع العادات والتقاليد. فالأوضاع الاجتماعية الجديدة ينتج عنها تفكير جديد يؤسس لممارسات اجتماعية جديدة التي بدورها تتحول مع الزمن إلى عادات وتقاليد، لتصبح التقاليد السابقة تراثا؛ وهنا ننتزع التقديس والثبات اللذين أُسبغا على العادات والتقاليد ونضع بدلا منهما الاحترام الاجتماعي لها.

في طور التحول الاجتماعي، كما نمر به الآن، من الطبيعي أن تصبح العلاقة مرتبكة مع العادات والتقاليد، لكن ليس بالضرورة أن تكون تلفيقية. ما يجعل العلاقة أقل ارتباكاً هو التوقف عن التعامل المزدوج مع عادة من العادات تبجل تارة في موقع وتستسخف تارة في موقع آخر، ويستعاض بدلاً من ذلك احترامها اجتماعياً وتحييدها فكرياً، مع التفريق بين احترامها وبين الالتزام بها، والتأكيد على تحرير الفكر من قيودها، فلا إبداع فكريا دون حرية.



alhebib@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد