لا أظن أن البحر يمكنه أن يعتب على الغيمة أن تمطره مزيداً من الماء، أو أن بإمكانه ألا يستقبل قطراتها فيمزجها بمائه، تماماً كما أن الحياة لا يمكنها أن تتخلص مما ينتجه أبناؤها، أو أن تفصل بين مكنونها، لكن الإنسان وحده من يمكنه أن يتفكر، وأن يستقبل، وأن يرفض، وأن ينتقي، وأن يصنف، ويفصل، ويتجه أو يدبر، ويأخذ أو يترك...
كلما تفكرنا في ناشئة هذه المرحلة، تساءلنا ما الذي ينفهم من إرث من سبق؟ وما الذي ينفعهم من مدِّ الذي يعاصرون..؟ وهم إن كانوا كالبحر يتلقون عنوة ما تمطره الحياة من غيمات مكنون معطيات إنسانها، إلا أنهم يملكون مقومات التفكير والإدراك، ومحكات التأمل والترجيح، ولكن كيف..؟ أليس بما منح الله آباءهم وأمهاتهم ومفكريهم وعلماءهم ومربيهم، ومنشئيهم من دعامات منهج سماوي يقوم على فضائل الأخلاق، وقيم السلوك، وأسس التعامل، وفقه العبادة ؟ وهو.., هو المحك بين ماء البحر المالح، وقطر المطر العذب، وبين شطر الحياة المظلم، وشطرها المضيء..؟ وبين ما يفرزه الإنسان في غروره، وبين ما يفرزه في يقينه..؟.. فإذن، لماذا يُمارس ناشئة الفتيان والفتيات هذا الازدواج في سلوكهم.., والتخبط في مفاهيمهم، والفراغ في معارفهم.., والخواء في ثقافتهم، لا يدركون ثوابت فيتمسكون بأطرافها تنتشلهم من موج المد بطحالبه وطميه، ولا يعرفون سبيلاً لفكر يشدهم بأضوائه نحو الجادة..؟ أليس من الأنفع الأمثل أن يتفكر المفكرون، ويخطط المربون، ويحرص الحاضنون على عناصر بشرية جلية الفكر، قوية الدعامات، مكينة الثقة، واضحة التوجه، ليست كالذين سمعوا من يقول فقالوا، ورأوا من فعل ففعلوا، دون أن يكون لهم من الركائز الثابتة التي تتجلى فيها وبها هوياتهم العقدية..؟ إنها الأمانة أيها القوم، وإنه يوم السؤال... ذلك لأن ناشئ الفتيان، سوف ينشأ كما تركه كل من تخلى عن حمايته من ازدواجية مفرزات واقعه.