احترتُ فيه؟!
لم أجد له تعريفاً محدداً، ولم أستطع أن أنظمه في اتجاه فكري معيَّن، ولم يستقم هو على منهج واحد لكي أعرف عمقه ورؤيته وما يريد،
لقد حيرني وأدار رأسي كما حير وأدار رؤوس كثيرين غيري ممن اتصلوا به أو صحبوه أو تحدثوا إليه..
تأتيه يوماً فتجده إسلامياً مندفعاً شديد المحافظة على القيم الدينية وعلى الأخلاق العامة حين يكون في مجلسه نفر يغلب عليه هذا الاتجاه، وتجده على خلاف هذا كله حين يكون في حضرة طائفة من الليبراليين أو سواهم ممن تغلب عليهم صفة الحداثة والتمدين، وتجده بين بين حين يكون مع سائر الناس؛ فلا رؤية لديه ولا رأي له، ولا لون ولا طعم ولا رائحة!
قلتُ له يوماً:
يا أخي، كن كما تريد أن تكون، لا كما يريدك الآخرون!
قال: بل أنا أسير وفق هوى اللحظة والموقف، فهل تريدني أن أعاكس التيار، وأواجه الموجة، أنا مع من يكون أمامي، أريد أن أكسب رضا الجميع، وأن أحظى بدعمهم وتأييدهم، فلا مصلحة لي أبداً أن يشتمني الإسلاميون، كما أنه ليس من الحكمة أن أخسر تيار التحديث وما يريده الاتجاه التجديدي؛ ولذا تجدني مرة هنا ومرات هناك، وقد تتهمني كما اتهمني قبلك كثيرون بأنني مضطرب الشخصية، قلق الموقف، متناقض الرؤية، غير مهتد إلى سواء السبيل، بسبب ضبابية التفكير، وتشوش المنهج.
قلتُ له: نعم هو ما ذكرت. أراك براجماتياً متقلباً نفعياً لا أعرف لك هوية ولا اتجاهاً، ولا أستطيع أن أراك وفق مدرسة أو تيار أو جماعة أو أهداف أو غايات!
أنت يا أخي تتغنى بالإسلامية وتدندن على أوتارها حين تكون في حضرتهم، بينما تنتهك بممارساتك النفعية قيم ما تتغنى به!
وأنت ترفع راية الحداثة وتنقم على الأصولية والتقليد، وتقذع في ملامة الماضويين والمنغلقين، على حين لا تندفع خطوة عملية واحدة شجاعة في مواجهة مَنْ تعلن اختلافك معهم ونقمتك عليهم في حضرة من يكون لديك من ذوي الاتجاه الليبرالي!
وأنت تدعي الوطنية وصدق الانتماء إلى مفهوم وطني واسع وعميق وشامل، بينما تضرب هذا المفهوم النبيل في خاصرته برؤيتك الضيقة إلى مَنْ تلتقيه أو يلتقيك على حساب القريب أو البعيد منك مَحْتِدًا ونشأة ولهجة وتقاليد!!
فأي وطنية مزيفة تدعيها وأنت لا ترى هذا الوطن المتسع الشموس الفسيح الأرجاء إلا من خلال حيّك الضيق؟!
وأي وطنية مدعاة وأنت تخرق أجمل قيمها في أن تنسى ذاتك وأنت تعمل، ولا تفكر كم تكسب؟ بل كان عليك أن تفكر ماذا تنتج؟ وماذا تبني؟ كي يبقى ما تبنيه بعدك لوطنك.
المؤسف يا صديقي أن (المقولات) الجميلة الفضفاضة جاهزة لديك، قريبة التناول من يديك، لا تجد عناء ولا مشقة في إسباغ كل فعل تقترفه أو عمل تؤديه أو رأي تذهب إليه، ولا تجد ما يمنعك من أن تكون يمينياً متطرفاً حيناً، أو ليبرالياً متطرفاً حيناً آخر، ولا ما تخشاه وأنت تتلبس لبوس الوطنية والصدق والإخلاص في سعيك إلى توسيع نطاق أرصدتك، ودأبك على الاستمتاع بما تهبه الوظيفة من مكارم وهبات وسياحات باسم الوطن والوطنية، وباسم الإخلاص والولاء، بينما لا يعود على وطنك من كل ما ينفقه عليك بسخاء من هبات وكرم سوى الوعود والادعاء والثمر الفج المحصرم!
يا صديقي المثقف الذي أشغلته الثقافة بمخزونها المتجدد الثر الغني في اكتساب مهارات البقاء والصمود أمام التيارات والآراء والنقد، فما وجدت فيها كيف تبدع وتعطي وتنتج وتحتوي وتضرب المثل في القدوة والنبل والخلق الفاضل الحقيقي غير المدعى، بل اتخذت منها سبيلاً ميسراً سهلاً للوصول إلى مآربك، وطريقاً مفتوحاً لتحقيق غاياتك الذاتية ومصالحك!
انكشف مثقفون يمارسون الادعاء حين جلسوا على كراسي الوظيفة، وانكشفوا حين عصفت بهم المصالح حتى ولو لم تتح لهم فرصة امتطاء كراسي الوظيفة!
فلا يداخلنا عجب حين يفاجئنا اليوم رأي مادح جديد لفلان الناقد يختلف عن رأيه القادح أمس! فقد لعبت المصلحة دورها في هذا الانقلاب في الموقف!
ولا نأسى على مَنْ يغالي في ادعاءاته حين تتاح له فرصة قيادية؛ فيضرب عرض الحائط بقيم التنوير والليبرالية التي يرفع راياتها في كل محفل وصالون، وحين سنحت له الظروف وتيسرت له السبل في دورة الزمان المعتادة أن يفعل ما كان في وسعه أن يفعل من تغيير إيجابي يخدم الوطن ويعلي رايته ويدفع به خطوات إلى الأمام في طريق الانفتاح والتجديد والبناء غلبته ذاته الضيقة؛ فلم ير إلا نفسه وما يضطرب فيها من رؤى ضيقة، واستولت عليه مناطقيته فلم يحفل بمن هم خارجها، ولا بما هو مختلف عنها من ثقافة وتقاليد واختلاف أطياف وتعدد مذاقات!
وحين دفعت الظروف والتغيرات - قديماً - بفئة من المحافظين التقليديين إلى كراسي الوظيفة القيادية لم يكونوا بأحسن حال من مدعي التجديد والانفتاح، فما هو ظاهر على السطح من علامات الاستقامة والتدين لا يعكس بالضرورة ما يحدث خلف الستار من اغتنام مكاسب، أو انتهاز فرص، أو استحلال ما لا يحل، أو منح من لا يستحق فرصة مَنْ يستحق بدوافع فكرية أو شللية أو مناطقية!
مثقفون مزيفون، يمارسون الادعاء بالفعل، ولكنهم لا يخفون على الناس، كما أنهم مكشوفون أمام أنفسهم قبل انكشافهم عند الآخرين، على الرغم من محاولات استذكائية مستميتة لخداع أنفسهم وخداع غيرهم!
فلا التقليديون حين وصلوا إلى مراكز قيادية كانوا قدوة في الصدق والنزاهة والعدل والإخلاص لشرف الوظيفة والولاء لمصلحة الوطن عند طبقة غير قليلة من ذوي هذا الاتجاه! ولا التجديديون الليبراليون المنفتحون كانوا قدوة طيبة في تطبيق قيم الثقافة الجديدة التي يدعون مجتمعهم إليها، وينافحون في سبيل التغيير والانعتاق من ربقة التقليد والاتباع إلى فضاءات العالم الجديد.
ما يمكن تدوينه تأريخياً على ممارسة المثقف في الاتجاهين التقليدي المحافظ والليبرالي المنفتح، وكذلك النمط الأول المضطرب الذي لا لون ولا طعم ولا رائحة له، ذلك الذي بدأت برسم صورته في مقدمة هذا المقال، من أن (تزييف) المواقف، وغلبة الادعاء، والانتهازية هي السمة الطاغية على ممارسة فئة غير قليلة من المثقفين حين يصلون إلى مراكز قيادية في الوظيفة، أو حين تدفعهم المنافع إلى تبديل قناعاتهم بين يوم وليلة، وتغيير مواقفهم المعلنة التي انطلقت بها حناجرهم أو نشرتها الصحف!
المثقف الانتهازي المتلون أشد خطراً على الوطن ومصالحه من الجاهل غير الأمين!
ذلك أن المثقف الانتهازي يملك قدرات خاصة على إسباغ اليقين على ما يذهب إليه؛ فلا يشك في صدقه أحد، ثم إنه يبذل جهداً غير قليل في تمثيل صدق الموقف وعمق الرؤية؛ فهو أقدر على الخداع والمراوغة والهروب من المآخذ.
المثقف الانتهازي ينتهك أجمل القيم النبيلة، ويضرب المثل السيئ والقدوة الرديئة للأجيال بأن الأمور متساوية، ولا فضل لذوي المعرفة على سواهم، ولا بريق أو تميز أو جمال أو فرادة لمن يحمل شهادة علمية عالية على مَنْ هم دونه في تحصيل الشهادات أو تدبيج المقالات أو اجتراح الآراء الجريئة في الندوات والصالونات!
المثقف الانتهازي - مع بالغ الأسف - يمارس أبشع صور الخيانة لوطنه وأمته، ويحفر أخاديد معوقة في طريق نهضتها وتقدمها!
إنه الممثل البهلوان الراقص على مسرح العرائس، بقدر ما يجيد التراقص والتلون وسرعة الحركة يكسب ويطيل عمر بقائه على خشبة المسرح!!
ولكنه في نهاية الأمر (بهلوان) عند عامة النظارة في قاعة المسرح المكتظة، وهو في نهاية الأمر لا يعدو أن يكون ممثلاً يؤدي دوراً قد يفشل في بعض فصوله وقد يجيد!
هل آن الأوان لنعي كم على خشبة هذا المسرح من بهلوانات راقصة تمارس الادعاء، وتتكلم بغير ما تعتقده، وتلبس غير لبوسها الذي ترتاح له ويليق بها؟!
هل نصل يوماً إلى أن نجرؤ ونكتب ونقول ونمارس ما يتفق مع ما يحسن أن يكون، وينسجم مع دواعي النهوض والتقدم والتحديث، غير عابئين بمشاعر السخط أو الرضا عند مَنْ لا يتفق مع ما تمليه الحقيقة، وغير مكترثين بالمصالح الضيقة، أو ضغوط الصلات الاجتماعية؟!
إننا حين نصل إلى القدرة على الفرز والمواجهة؛ حيث يعي المزيفون أنهم مكشوفون، نصل بمجتمعنا في طريق نهوضه إلى تحقيق كثير من أحلامه بعيداً عن ادعاءات غير حقيقية لمواقف مضطربة من شخصيات أقل ما توصف به أنها انتهازية باسم الثقافة.
تلويحة:
قد تعلو راية الباطل حيناً، ولكنها لن تعلو في كل حين.
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام كلية اللغة العربية
ksa-7007@hotmail.com