Al Jazirah NewsPaper Saturday  27/02/2010 G Issue 13666
السبت 13 ربيع الأول 1431   العدد  13666
 
بين الكلمات
قبل الإسفلت..
عبد العزيز السماري

 

ما زلت أبحث عن إجابة عن تلك الرغبة الجامحة التي تدفع الإنسان للكتابة ولوصف الاشياء من منطلق تجربة السنين والأفكار التي يكتسبها ويتصل من خلالها مع الناس، والتي تكونت عبر السنين، ومن خلال تفاعله مع الأحداث التي يمر فيها أو تمر به على طريق الحياة السريع..

في مسارات الحياة السريعة، لم يعد باستطاعة الإنسان أن يتوقف عن الركض واللهث خلف سراب الطموح القاتل في الحياة، وعن مطادرة ذلك الجموح الذي يلهث عطشاً خلف وهم الوصول إلى الرضا الذي لا يمكن للإنسان أن يصل إلى أعماقه مهما طال الزمن، وذلك لسبب واحد وهو أ لا يستطيع أن يتحكم في العوامل الخارجة عن إرادته، ونفس الوقت لن يكون بمقدوره أن يتوقف عن الحركة..

يحتاج المجتمع أن يسمع من أفراده عن تلك الطرقات الوعرة التي مروا منها في تجاربهم العملية أو التعليمية والاجتماعية، ثم طمرتها وسائل وأحداث الحياة الجديدة، فالحديث بموضوعية عن الذات قد يقرب المسافات بين خبرات السنين، ليصهرها في قالب قد يكون لها معنى عند الآخرين..

في منتصف السبيعينيات الميلادية امتدت طبقة الإسفلت لتغطي شوارع الرياض القديمة في المرقب وحلة العبيد والصالحية وما جاورها من الأحياء الشعبية، وكأنها تأذن بدخول مرحلة جديدة، من أهم صفاتها نهاية مرحلة، وبدء أخرى غلافها الخارجي طبقة سميكة من الإسفلت الأسود، امتدت لتكون بمثابة الصفحات التي سيُكتب عليها فصول المرحلة الجديدة..

كان الجميع فرحاً بقدوم الإسفلت وكانت فرحة العم حلواني أكثر من غيره، فقد كان يعاني الأمرين من دفع عربته الخشبية، والتي قد يضطر إلى أن يجرها إذا وقفت وعورة الطريق الترابية حجر عثرة في تجوالها داخل الشوارع الضيقة لبيع الحلويات وأنواعها..،كان يسكن في منزل من دورين، الدور الأول مبني من الطين، بينما بنى لاحقاً الدور الثاني من البلك والإسمنت، وكان منزله صغيرا، ولا تتجاوز عدد غرفه الأربع، يسكن فيها مع عائلته الصغيرة، ويصنع في أحدهم بضاعته، ليبيعها في الصباح الباكر من أجل أن يكسب رزق أبنائه..

في الجهة المقابلة من صف البيوت الطينية، كانت توجد ساحة صغيرة لتجميع القمامة، وكانت عادة ما تتجمع فيها إلى تصل إلى حجم مأهول بمخلفات البيوت المجاورة، وكان الحل دائما ما يكون في حرقها وقت صلاة الجمعة، لينتشر الدخان الكثيف، ويدخل في البيوت الطينية من أوسع أبوابها ونوافذها ومن أعلاها، من فتحة علوية تميزت بها البيوت العربية القديمة..، وتبدأ أزمات قد ينتهي بعضها في غرفة الإسعاف في مستشفى الشميسي العريق..

في جهة أخرى في شارع الحلة تصطف المحلات الصغيرة على أحد جنبات الطريق، والتي يتاجر أصحابها بشراء وبيع وصناعة المطارق والأدوات الحديدية والمواقد المعدنية، بينما تنتشر في الجهة المقابلة مطاعم لإعداد الوجبات الشعبية، وكان قدوم الإسفلت في طريقهم الرئيس آخر عهدهم بالأجواء الترابية اليومية وموجات الغبار الكثيف.. بسبب مرور السيارات المتواصل أمامهم، لكنه أيضاً كان الإعلان الأخير لإخراجهم من مرحلة زمنية إلى أخرى.. كان الضجيج يزداد كلما اتجه المرء شمالاً في الطريق نحو شارع المرقب في اتجاه المدرسة التذكارية، وكانت تختلط الأصوات في ذلك الضجيج بصورة غير منتظمة، لكن يخرج من بينها أصوات.. عزف عود وأغان شعبية، وعندما تقترب يظهر سوق كبير لمحلات الاسطونات والأشرطة الغنائية ولبيع الآلات الموسيقية..، ويظهر بعدة عشرات الأمتار المسجد الجامع في وسط الحلة التاريخية..

كان المساء مختلفاً عن الحاضر، إذ دائما ما اعتاد أفراد العائلة العودة إلى بيوتهم قبيل المساء، لتبدأ حالة من الظلام في الشوارع الضيقة، يصاحبها هدوء لا يكدره إلا صافرات تأتي من كل صوب في الحارة القديمة لتبدد الصمت والسكون من جديد، وكانت أشبه بإعلان حالة الإنذار ضد المارين المشتبه بهم، فقد كان لرجال العسة دور كبير في حراسة الحارة القديمة، وكانت السرقات في ذلك الزمن شبه معدومة برغم من حالة العوز التي كان يعيشها السكان، وكان أكثر ما يلفت نظري في رجال العسة ارتداؤهم لبالطو طويل من الصوف الثقيل في صيف الرياض الساخن..

عندما أتذكر قصة قدوم الإسفلت إلى الحارات القديمة يتبادر إلى ذهني مواقف الشيخ عبدالكريم الحميد ضد وسائل الحياة العصرية، ويتداولها بعضهم عنه، ومنها أنه يرفض الإسفلت ويحرم المشي عليه، لكنه نفى ذلك برغم من تحريمه لأكثر أدوات الحضارة الحديثة مثل الكهرباء والسيارة والطيارة، وكنت دائما ما أتساءل لماذا لم يُحرم الشيخ الجليل الإسفلت !، بينما حرم استعمال السيارة والطيارة والأحذية، فقد كان الإسفلت خلف تسارع أحداث تلك المتغيرات التي أدت لتحطيم أواصر العلاقات الاجتماعية، وهو الاكتشاف الذي مهد للسيارة والطيارة والإنسان في أن ينطلقا بسرعة جنونية، قضت على تلك التقاليد، لتتحول مع مرور السنين إلى مجرد ذكريات غابرة في الأمس البعيد، ولم يعد لها مكان في عصر الحارة الإنترنتية والعزلة الاجتماعية.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد