هنيئاً لجماعة مسجد العبيكان بشبرا بالرياض برجل كأبي سعد، الشيخ محمد السعد الأحيدب والذي توفي يوم السبت 22 صفر 1431هـ.
|
فقد ذرفت عيون جماعة المسجد بالدمع الساخن السخي المدرار، ونزل خبر وفاته عليهم بالحزن الشديد، وعانق المصلون بعضهم بعضاً في عزاء ومشهد لم يسبق له مثيل، بكوا رجلاً حملوا له الود والتقدير والاحترام والثناء والدعاء، ودَّعهم في عمر يقارب الثمانين عاماً، وهو يحمل السيرة العطرة الزاكية.
|
لن أكتب اليوم عن سيرته في ذلك العمر، بل سأروي سيرة عقدين من الزمن فقط هي فترة معايشتي للراحل المودع رحمه الله، عشرون عاماً رأيت فيها بأم عيني (وليس الخبر كالمعاينة) ما يسر الخاطر ويثلج الصدر، سيرة عرفها جماعة مسجد العبيكان وجيرانه ممتلئة بالخير، فياضة بالمحبة، وسعة الصدر، وتنوع الأعمال الصالحة، كل من عرفه عرف فيه البساطة والسماحة، والتواضع، ولين الجانب.
|
كان يقوم بأعمال تحتاج إلى مؤسسات ورجال للقيام بها، يُعلّم ويتعلم القرآن الكريم، ينفق من ماله في كفالة معلم من معلمي حلقات تحفيظ القرآن الكريم بالمسجد، بل يشارك بنفسه في الدورات القرآنية، وهو في سن الشيخوخة، ولم يبق في لحيته ورأسه شعرة سوداء.
|
كان -برّد الله بالرحمة ثراه- سريع الدمعة.. رأيته مرات عدة تذرف عيناه الدموع تأثراً من كلمات واعظٍ بالمسجد، أو تالٍ للقرآن.
|
كان أبو سعد -غفر الله له- مدرسة في الأعمال الخيرية، وصاحب إنفاق وأيادٍ بيضاء في الخير منذ بداية إنشاء المسجد وشراء أراضيه والسعي فيها والمساهمة في بنائه وإحياء برامجه، وتفعيل برنامج تفطير الصائمين، بل كان يتكفل بالوجبات طوال شهر رمضان، وكان عدد المستفيدين يقارب مائتي صائم يومياً.
|
تستعيد ذكراه فتتذكر الكلمة الطيبة والنصيحة الصادقة المخلصة والشفقة على كل مسيء أو مقصر، في حرص على أبناء أهل الحي وتوجيههم وحثّ آبائهم على عدم الغفلة عنهم.. تخرج كلمات التوجيه والنصح منه بعفوية متناهية، وبساطة وأريحية تشعر من خلالها صدق النية وحرقة القلب، وكان كثيراً ما يردد بيت الشعر:
|
غدا توفى النفوس ما كسبت |
ويحصد الزارعون ما زرعوا |
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم |
وإن أساؤوا فبئس ما صنعوا |
كان يلقي بعض المواعظ والكلمات في المساجد القريبة من الحي بعد الصلوات، وقد سمعته مراراً يقرأ ويبكي عند قوله تعالى: ?وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا?. كما كان حريصاً على اللقاء الشهري لأهل الحي منذ عشرين عاماً، حريصاً على جيرانه وذوي رحمه بالاتصال والسؤال وتفقُّد الحال، كثير الزيارة لهم وخصوصاً من أصابه عارض صحي.
|
كان بيته ومجلسه مفتوحاً وعامراً بالزائرين الذين أحبوه في الله، يلقاهم بالبشر والسماحة والسؤال وتفقُّد الحال.. يسأل عن الصغير والكبير، ويرقي المريض المحتاج للرقية حتى لو اضطر للذهاب إليه في المستشفى لا يبتغي بذلك إلا وجه الله وابتغاء مرضاته، وكان يخفي ذلك ولا يرغب نشره بين الناس.
|
وقد تواصلت علاقاته الاجتماعية بأناس تختلف طبقاتهم في علاقة أشبه ما تكون بعلاقة الأب بأبنائه، والصديق مع صديقه، ولذا صار الكثيرون محبين له -رحمه الله- يأنسون بقربه ويحرصون على خدمته والسفر معه.
|
نودع أبا سعد.. فنودع من كان جل وقته في عبادة وصلاة وصيام وتلاوة قرآن، وقد عرفته طيلة العشرين سنة الماضية لا يخرج من المسجد فجراً إلا بعد الإشراق وبعد أن يصلي ركعتين، وحين يكون صائماً يومي الاثنين والخميس لا يخرج إلا مع أذان المغرب، وكان يباشر الأذان والصلاة في المسجد في حال تأخُّر الإمام والمؤذن بصوته الخاشع المؤثر.
|
وأجمل ما سمعته أيام العزاء من أحد كبار المسؤولين في الدولة: (إن هذا الرجل ويقصد أبا سعد -رحمه الله- كان يتواصل معه بالنصيحة منذ عشرين عاماً).
|
كما كان كثير الأداء للعمرة والحج، وقد كُتب له الرحيل وهو قادم من العمرة.. متجهاً للمدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
|
لقد رحل عن الدنيا، وهو بكامل صحته وعافيته وقوته العقلية، أُصيب بحادث سيارة ثم توفي بعده بساعات، وحين وصل الخبر لجماعة المسجد خيَّمت على الجميع سحائب الحزن، واجتمع الناس للصلاة عليه في جامع الراجحي بالرياض في جمع غفير وعدد كبير مشهود، حرصت على الحضور أثناء تغسيله ورؤيته وتقبيله قبل الصلاة عليه، وقد تيسر لي ذلك بفضل الله، فشاهدت ما يسعد النفس، ويسر الخاطر من وضاءة الوجه كالقمر يتلألأ نوراً وإشراقاً.
|
هذا ما تيسر من حياته -رحمه الله- نحسبه كذلك والله حسيبه، ولا نزكي على الله أحداً، وما شهدنا إلا بما علمنا، وذلك لعيشه الكثير من وقته في المسجد، ولقرب منزله منه، وقربه من أهل الحي أيضاً، ولوجود ابنه الشيخ يوسف مؤذناً للمسجد.. (ومن شابه أباه فما ظلم).
|
رحم الله الشيخ محمد بن سعد الأحيدب، وألهم أهله وذويه ومحبيه الصبر، وأورثه الفردوس الأعلى، وغفر له ووالدينا وجميع المسلمين.
|
(*)إمام مسجد العبيكان بحي شبرا |
|