Al Jazirah NewsPaper Friday  26/02/2010 G Issue 13665
الجمعة 12 ربيع الأول 1431   العدد  13665
 
وقفات في موكب وداع أبي سليمان
صالح الصقعبي

 

لم يكن موكب وداعك بسيطاً ومقتصراً على الأهل والأقارب، كما هي مواكب المغادرين من أقرانك، بل كان مهيباً، تزاحمت فيه الحناجر التي تدعو لك مع الأكتاف التي تتدافع لحملك، إلى حيث آخر نقطة في رحلتك، التي لم تعمر بها طويلاً، كما أن هذه الجموع التي أخذت تحث الخطى للمشاركة في موكب وداعك، وتلك التي تسطّر برقية، أو تجري اتصالاً بذويك تواسيهم، وتعزيهم، جل هؤلاء لا يعرفون عائلتك إلا من خلالك، ليسوا أنساباً، ولا بني عم، إنهم جمع من الأوفياء، قد بادلوا ثقتك بكل معاني العطاء الصادقة.

كان الجميع يستذكر مواقفك الرجولية بالشموخ يا أبا سليمان، رغم أنه لم يمض على رحلتك العملية سوى تسع سنوات فقط، من سني عمرك القصير بأيامه، الكبير بعطائه.

أبو سليمان.. لم يمض على حملك لهذه الكنية سوى عام ونصف العام، لتذهب إلى رحمة الله الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً، تاركاً الرضيع (سليمان) يتعالى صياحه بعد أن تكوّم في كرسيه الخاص على تلة قريبة من الطريق المؤدي من القصيم إلى الرياض، وتحديداً قرب «كوبري العمارية» بعد أن قذف به شدة الارتطام إلى الخارج، يرمق من خلف دموعه المتناثرة جسدي والده ووالدته الممددين أمامه دون حراك، بعد ما سلم الروح لبارئها، دون أن يدرك كنه هذا المشهد وما وراءه.

لم يبلغ أبو سليمان الثلاثين بعد، ولكنه عمل أعمالاً كبيرة، يعجز عن القيام بها بعض الكبار.

لم يكن دافعي لمثل هذا القول عاطفتي الجياشة، رغم اعترافي أنك جملة أصيلة في مقطوعة فرحي، وقد غابت، وبسمة كبيرة، في عقد أيامي، وقد انطفأت.

نعم.. شهادتي بابني عبد الله السليمان المحمد الصقعبي «رحمه الله» مجروحة.. لذا فما أنا بصدد إيراده ليس بث حرقة فقدي، وعظيم فجيعتي به «رحمه الله».. ولكن ما هو أكثر نفعاً وفائدة ذلكم هو الإطلالة بسرعة على هذا المثال المشرق لشاب من أبناء الوطن.

أكمل دراسته الثانوية، في المرحلة الجامعية أراد أن يعتمد على نفسه، فسعى للعمل كمحاسب بسيط في إحدى فروع شركة هرفي ببريدة، وفي أقل من سنتين أثبت جدارة فذة، فتمَّ تعيينه مديراً للفرع، وبعد إكمال المرحلة الجامعية تفرَّغ لعمله بالشركة، ليصبح مديراً إقليمياً، فمديراً عاماً للسعودة.. ومن ثم مديراً عاماً للموارد البشرية والتطوير مدعوماً بالعديد من البرامج والأفكار المؤمنة بابن الوطن، وضرورة إعطائه الفرصة لإثبات وجوده، وبالفعل قام بترشيح أعداد كبيرة من أبناء جنوبنا العزيز، وزاد عدد الأيدي الوطنية التي بادلت الثقة بالمزيد من العطاء، حتى أصبح أخاً وصديقاً للجميع.. وهذا دفع بمديره الإنسان أحمد السعيد بأن يقول: «إنه صغير سن، ولكنه عمل ما يعجز عنه الكبار» واستحق تقاطر موظفي الشركة، يتقدمهم رئيسها ومديرها ومؤسسها المواطن الصادق أحمد السعيد، وكان أبو خالد بمبادرته الإنسانية، مصدراً حقيقياً لإذكاء روح المواطنة والعطاء، لدى جميع العاملين لديه، وأبو سليمان «رحمه الله» كان أحدهم.

لا أريد أن أطيل التوقف في هذه الزاوية لكي لا أقع في محاذير الدعاية، أو التزلُّف، ولكن أكرر قناعتي، بأن مواقف الرجال تسبق أسماءهم، وتكون أكثر إثراءً وبقاءً من جميع الألقاب، مهما زاد بريقها.. وأكتفي يا أبا خالد بالقول: لك كل الشكر على مواقفك النبيلة.

لم يكن عبد الله منذ أن حلَّ ضيفاً على الدنيا كثير الكلام، فقد كان صامتاً، خجولاً، يمسح المكان ومن فيه بنظرته الثاقبة، ثم يلوذ بالصمت، وكأنه يؤكد استيعابه، لما في المكان، وزهده في المشاركة في الوجود الصوتي، وميوله إلى جعل الأفعال هي من يتحدث، وبطبيعة الحال.. هي أكثر صدقاً وبلاغة وواقعية من الأقوال.

لم تطل أيام الرحله يا أبا سليمان معك، فقد كنت أول من مارست عليه سلطات الخال.. معتبراً أن الخال والد، وأنا أطلب منك إحضار القهوة أو الشاي عندما كنت صغيراً، واستمرأت هذه الميزة.. وأنا أرسل لك رسالتي التقليدية... «ابني عبد الله، حامله يهمني أمره، وهو بحاجة للعمل وشاب من أبناء الوطن آمل مساعدته.... وأختمها بكلمة السر (خالك)».

لم يكن «رحمه الله» يخيّب لي طلباً، وبعد رحيله عرفت أن هذا السلوك لم يكن معي، بل كان مع كل من طلب مساعدته.

في موكب وداعك يا أبا سليمان ذقت الطعم الآخر لكلمة السر تلك، لتشتعل النار في صدري حسرة وألماً لفراقك، مع كل صورة تعبر لك في خيالي، انطلاقاً من المشهد الأول وأنت تطلق صيحاتك الأولى في حضن والدتك، وانتهاء بك وأنت مُسجى بجامع الخليج ببريدة عصر يوم السبت الموافق 29 صفر1431هـ وبجوارك شريكة حياتك، ولكن لا نملك إلا التسليم بقضاء الله وقدره.. متذكرين دائماً مواقف الرجال التي تتجلى في هذه المناسبة، لأقول لكل محبيك ومفتقديك، وعلى رأسهم والدك ووالدتك: عزاؤنا رحيق عطائك، ونقاء سيرتك، وصفاء سريرتك، تقبلك الله وزوجتك مع الصديقين والشهداء، وألهم الجميع الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد